فصل: باب الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب الْمَرْأَةِ تَهَبُ يَوْمَهَا مِنْ زَوْجِهَا لِضَرَّتِهَا وَكَيْفَ يَقْسِمُ ذَلِكَ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ، وَكَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُ لِعَائِشَةَ بِيَوْمِهَا وَيَوْمِ سَوْدَةَ‏.‏

وقوله‏:‏ وكيف يقسم ذلك، يريد أن تكون فيه الموهوبة بمنزلة الواهبة فى رتبة القسمة، فإن كان يوم سودة ثالثًا ليوم عائشة أو رابعًا أو خامسًا، استحقته عائشة على حسب القسمة التى كانت لسودة ولا تتأخر عن ذلك اليوم ولا تتقدم، ولا يكون ثالثًا ليوم عائشة إلا أن يكون يوم سودة بعد يوم عائشة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأجراه النبى صلى الله عليه وسلم مجرى الحقوق الواجبة، ولم يجره على أصل المسألة من الحكم فيه بما جعل الله له من ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وتئوى إليك من تشاء‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 51‏]‏، فأجراه مجرى الحقوق تفضلاً منه، عليه السلام، ليكون أبلغ فى رضاهن، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك أدنى أن تقر أعينهن ولا يحزن ويرضين بما آتيتهن كلهن‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 51‏]‏، أى لا يحزن إذا كان هذا منزلاً عليك من الله، ويرضين بما أعطيتهن من تقريب وإرجاء‏.‏

وقال قتادة فى قوله‏:‏ ‏(‏ترجى من تشاء منهن‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 51‏]‏ الآية، قال‏:‏ هذا شىء خص الله به نبيه صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد غيره، كان يدع المرأة من نسائه ما بدا له من غير طلاق، وإذا شاء راجعها‏.‏

قال غيره‏:‏ وكان ممن آوى عائشة، وأم سلمة، وزينب، وحفصة، وكان قسمه من نفسه وماله فيهن سواء، وكان ممن أرجى سودة، وجويرية، وصفية، وأم حبيبة، وميمونة، وكان يقسم لهن ما شاء‏.‏

واختلفوا فى كم يقسم لكل واحدة من نسائه، فقال ابن القاسم‏:‏ لم أسمع مالكًا يقول إلا يومًا لهذه ويومًا لهذه‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ إن أراد أن يقسم ليلتين ليلتين، وثلاثًا ثلاثًا، كان ذلك له، وأكره مجاوزة الثلاث من الغيرة‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ولا أرى مجاوزة يوم، إذ لا حجة مع من تخطى سنة النبى، عليه السلام، إلى غيره، ألا ترى قولها فى الحديث‏:‏ إن سودة وهبت يومها لعائشة، ولم يحفظ عن النبى صلى الله عليه وسلم فى قسمه لأزواجه أكثر من يوم وليلة، ولو جاز ثلاثة أيام لجاز خمسة أيام ولجاز شهر، ثم يتخطى بالقول إلى ما لا نهاية له، ولا يجوز معارضة السنة‏.‏

وكان مالك يقول‏:‏ لا بأس أن يقيم الرجل عند أم ولده اليوم واليومين والثلاثة ولا يقيم عند الحرة إلا يومًا من غير أن يكون مضارًا، وكذلك قال الشافعى‏:‏ يأتى الإماء ما شاء أكثر مما يأتى الحرائر الأيام والليالى، فإذا صار إلى الحرائر عدل بينهن‏.‏

باب الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ

وَقَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ ولو حرصتم‏}‏ ‏[‏النساء 129‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء‏}‏، أى لن تطيقوا أيها الرجال أن تسووا بين نسائكم فى حبهن بقلوبكم حتى تعدلوا بينهن فى ذلك؛ لأن ذلك مما لا تملكونه‏)‏ ولو حرصتم ‏(‏، يعنى ولو حرصتم فى تسويتكم بينهن فى ذلك‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ لا تستطيع أن تعدل بالشهوة فيما بينهن ولو حرصت‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ ودلت هذه الآية أن التسوية بينهن فى المحبة غير واجبة، وقد أخبر النبى صلى الله عليه وسلم أن عائشة أحب إليه من غيرها من أزواجه،‏)‏ فلا تميلوا كل الميل‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 129‏]‏ بأهوائكم حتى يحملكم ذلك أن تجوروا فى القسم على التى لا تحبون، وقوله‏:‏ ‏(‏فتذروها كالمعلقة‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 129‏]‏، يعنى لا أيم ولا ذات بعل،‏)‏ وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورًا رحيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 129‏]‏، يقول‏:‏ وإن تصلحوا فيما بينكم وبينهن بالاجتهاد منكم فى العدل بينهن وتتقوا الميل فيهن، فإن الله غفور لما عجزت عنه طاقتكم من بلوغ العدل منكم فيهن‏.‏

وروى عبد الوهاب، عن أيوب، عن أبى قلابة، عن عائشة، أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه، ويقول‏:‏ ‏(‏اللهم إن ذا قسمى فيما أملك، فلا تلمنى فيما تملك ولا أملك‏)‏‏.‏

وروى همام بن يحيى، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نهيك، عن أبى هريرة، عن النبى، عليه السلام، قال‏:‏ ‏(‏من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه ساقط‏)‏‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وكأن معنى هذا الحديث عندنا على الميل إليها بغير إذن صاحبتها له فى ذلك، فأما إذا أذنت له فى ذلك وأباحته، فليس يدخل فى هذا المعنى كما فعلت سودة حين وهبت يومها لعائشة؛ لأن حقها إنما تركته بطيب نفسها، فهى فى حكمها لو لم يكن له امرأة غيرها‏.‏

باب إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرِ عَلَى الثَّيِّب

- فيه‏:‏ أَنَس، لَوْ شِئْتُ أَنْ أَقُولَ‏:‏ قَالَ النَّبِىُّ عليه السَّلام وَلَكِنْ قَالَ السُّنَّةُ‏:‏ إِذَا تَزَوَّجَ الْبِكْرَ، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاثًا‏.‏

قال ابن عبد الحكم‏:‏ لم يعن بهذا الحديث من ليست له امرأة، ثم تزوج أن يقيم عندها سبعًا أو ثلاثًا، ولكن أريد به من له امرأة، ثم تزوج عليها أخرى، فقال بعض العلماء‏:‏ المراد بالحديث العموم، والمقام عند البكر سبعًا وعند الثيب ثلاثًا واجب لهما، كان عند الرجل زوجة أم لا؛ لأن السنة لم تخص من له زوجة ممن لا زوجة له‏.‏

قال المؤلف‏:‏ والقول الأول هو الصحيح، وقد بينه سفيان، عن أيوب، وخالد، عن أبى قلابة، عن أنس فى الباب بعد هذا، قال‏:‏ من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا ثم قسم؛ لأنه لا يقسم الذى يقيم عند الثيب ثلاثًا إلا من تقدم عنده زوجة أخرى أو أكثر‏.‏

فبان بهذا الحديث أن المراد به من له زوجة ثم تزوج عليها أخرى‏.‏

وروى ابن القاسم، عن مالك، أن مقامه عند البكر سبعًا، وعند الثيب ثلاثًا إذا كان له امرأة أخرى واجب، وروى عنه ابن عبد الحكم أن ذلك مستحب وليس بواجب‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ ويخرج إلى حوائجه وصلاته بكرًا كانت أو ثيبًا، كانت له زوجة أخرى أم لا‏.‏

وروى ابن أبى أويس، عن مالك، فيمن دخل على امرأته ليلة الجمعة أيتخلف عن الجمعة‏؟‏ قال‏:‏ لا، تزوج أمير المؤمنين المهدى بالمدينة، فخرج إلى الصبح وغيرها‏.‏

وروى ابن القاسم، عن مالك فى العتبية، قال‏:‏ لا يتخلف العروس عن الجمعة ولا عن حضور الصلوات، وهو قول الشافعى‏.‏

قال سحنون‏:‏ وقد قال بعض الناس‏:‏ لا يخرج، وذلك حق لها بالسنة‏.‏

قال المؤلف‏:‏ هذا على من تأول إقامته عند البكر والثيب على العموم، ومن رأى أن يخرج إلى الصلوات، فتأول إقامته عندها على ما يجب لها من القسمة والمبيت دون غيرها من أزواجه، فليس ذلك بمانع له من حضور الصلوات كما يفعل غير العروس فى قسمته بين نسائه، وليس له التخلف عن الجماعة‏.‏

وقال المهلب‏:‏ إنما خصت البكر بالسبع، والله أعلم، لما فى خلق الأبكار من الاستيحاش من الرجال والنفار عن مباشرتهم ولما يلقى الرجل من معالجتهن فى الوصول إليهن، وأما الثلاث للثيب فلسهولة أمرها وعلمها بمباشرة الرجال لم تحتج أن يفسح لها فى المدة بأكثر من ثلاث‏.‏

باب إِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ

- فيه‏:‏ أَنَس، إن مِنَ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْبِكْرَ عَلَى الثَّيِّبِ، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا وَقَسَمَ، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلَى الْبِكْرِ، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاثًا، ثُمَّ قَسَمَ‏.‏

وَلَوْ شِئْتُ قُلْتُ‏:‏ إِنَّ أَنَسًا رَفَعَهُ إِلَى النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام‏.‏

اختلف العلماء فى هذا الباب، فقالت طائفة‏:‏ يقيم عند البكر سبعًا وعند الثيب ثلاثًا إذا كانت له امرأة أخرى أو أكثر على نص هذا الحديث، ثم يقسم بينهن ولا يقضى المتقدمات بدل ما أقام عند الجديدة، هذا قول مالك، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، وأبى عبيد، واحتجوا بحديث أنس‏.‏

وقال ابن المسيب، والحسن‏:‏ للبكر ثلاثًا، وللثيب ليلتين، وهو قول الأوزاعى، قال‏:‏ إذا تزوج البكر على الثيب مكث ثلاثًا، وإذا تزوج الثيب على البكر أقام يومين‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ لا يقيم عند البكر إلا كما يقيم عند الثيب، وهما سواء فى ذلك، واحتجوا بحديث أم سلمة، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لها‏:‏ ‏(‏إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن، وإن شئت ثلثت ودرت‏)‏، قالت‏:‏ ثلث ودر، قالوا‏:‏ فلم يعطها فى السبع شيئًا إلا أعلمها أنه يعطى غيرها مثلها، فدل ذلك على المساواة بينهن‏.‏

قالوا‏:‏ وكذلك قوله‏:‏ ‏(‏وإن شئت ثلثت ودرت‏)‏، أى أدور مثلثًا أيضًا لهن، كما أدور مسبعًا إن سبعت، قالوا‏:‏ ولو استحقت الثيب ثلاثة أيام قسم لها لوجب إذا سبع عندها أن يربع لهن‏.‏

وقال لهم أهل المقالة الأولى‏:‏ قول النبى، عليه السلام‏:‏ ‏(‏ليس بك على أهلك هوان‏)‏، يدل أنه رأى منها أنها استقلت الثلاث التى هى حق الثيب، فآنسها عليه السلام بقوله‏:‏ ‏(‏ليس بك على أهلك هوان‏)‏، أى ليس أقسم ثلاثًا لهوانك عندى، وإنما أقسمها لك؛ لأنه حق الثيب، وخيرها بين أعلى حقوق النساء وأشرفها عندهن وهى السبع وبين الثلاث، على شرط إن اختارت السبع قسم لكل ثيب مثلها، وإن اختارت الثلاث التى هى حقها لم يقسم لغيرها مثلها، فرأت أن الثلاث التى هى حقها أفضل لها، إذ لا يقسم لغيرها مثلها ولسرعة رجوعه إليها، فاختارتها وطابت نفسها عليها، ورأت أنها أرجح عندها من أن يسبع عندها على أن يسبع عند غيرها‏.‏

وفى هذا ضرب من اللطف والرفق بمن يخشى منه كراهة قبول الحق حتى يتبين له فضله ويختار الرجوع إليه، ومما يبطل قول الكوفيين أنه إن ثلث عندها ثلث عندهن ثم يستأنف القسم أنه، عليه السلام، لما ذكر السبع قرنها بالقضاء، فقال‏:‏ ‏(‏سبعت عندك وسبعت عندهن‏)‏، ولما ذكر الثلاث لم يقرنها بالقضاء؛ لأن الدوران عليهن يقتضى ابتداء قسم لا قضاء، فسقط قولهم، هذا قول ابن القصار‏.‏

قال‏:‏ وقد خالف الكوفيون حديث أم سلمة؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال لها‏:‏ ‏(‏إن شئت سبعت عندك‏)‏، فجعل لها الخيار فى القسم، وأبو حنيفة يجعل الخيار إلى الزوج، وفى هذا مخالفة الخبر‏.‏

قال أحمد بن خالد‏:‏ هذا الباب عجب؛ لأنه صار فيه أهل المدينة إلى ما رواه أهل العراق؛ لأن حديث أنس حديث بصرى، وصار فيه أهل العراق إلى ما رواه اهل المدينة، وقول أهل المدينة أولى؛ لقول أنس‏:‏ السنة للبكر سبع، وللثيب ثلاث، والصحابى إذا ذكر السنة بالألف واللام، فإنما أشار إلى سنته، عليه السلام، واللام فى قوله‏:‏ للبكر سبع وللثيب ثلاث، لام الملك، فدل أن ذلك حق من حقوقها، فمحال أن يحاسبها بذلك، وقول ابن المسيب، والحسن، خلاف الآثار، فلا معنى له‏.‏

باب مَنْ طَافَ عَلَى نِسَائِهِ فِى غُسْلٍ وَاحِدٍ

- فيه‏:‏ أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِى اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ‏.‏

قد تقدم هذا الباب فى كتاب الطهارة، وأنه يحتمل أن يكون فعل ذلك حين إقباله من سفره حيث لا قسمة تلزمه؛ لأنه حينئذ لا تكون منهن واحدة أولى بالابتداء من صاحبتها، فلما استوت حقوقهن جمعهن كلهن فى ليلة، ثم استأنف القسمة بعد ذلك، ويحتمل أن يكون ذلك بطيب أنفس أزواجه وإذنهن فيه، يدل على ذلك سؤاله أزواجه أن يمرض فى بيت عائشة، حكاه ابن المنذر، عن أبى عبيد‏.‏

قال المهلب‏:‏ يحتمل أن يكون ذلك فى يوم يقرع فيه بالقسمة بين أزواجه، فيقرع هذا اليوم لهن كلهن يجمعهن فيه، ثم يستأنف بعده القسمة، والله أعلم‏.‏

إلا أن هذا من فعل النبى صلى الله عليه وسلم فى القسم بينهن شىء تبرع به وتطوع لما جبله الله عليه من العدل؛ لأن الله قد رفع عنه مئونة القسمة بينهن بقوله‏:‏ ‏(‏ترجى من تشاء منهن وتئوى إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 51‏]‏‏.‏

ولا يجوز عند جماعة العلماء أن يطأ الرجل امرأته فى ليلة أخرى، وإنما يجوز فى الإماء حيث لا قسمة لهن‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ وإذا وطئ الرجل إحدى امرأتيه فى يومها، ثم أراد أن يطأ الأخرى قبل أن يغتسل، فحللت امرأته التى لها ذلك اليوم فلا بأس به، ويكره للرجل أن يجمع بين امرأتيه من نسائه فى فراش واحد وإن رضيتا به، لكن لا يجوز أن يطأ إحداهما والأخرى معه فى البيت وإن لم تسمع ذلك‏.‏

قال ابن الماجشون‏:‏ ويكره أن تكون معه فى البيت بهيمة أو حيوان، وكان ابن عمر إذا فعل ذلك أخرج كل من عنده فى البيت، حتى الصبى الممهود، ولا بأس أن يطأ امرأته الحرة، ثم يطأ أمته قبل أن يغتسل، ولا بأس أن يطأ أمته، ثم يطأ امرأته قبل أن يغتسل‏.‏

قال غيره‏:‏ لما جاز أن يطأ امرأته مرتين وثلاثًا، ثم يغتسل فى آخر ذلك إذا حضر وقت الصلاة جاز له أن يطأ امرأتين فى ليلة إذا أذنت له صاحبة الليلة ويغتسل غُسلاً واحدًا، كما طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على نسائه فى غسل واحد فى ليلة‏.‏

قال ابن الماجشون‏:‏ ولا يجب على الرجل غشيان امرأتيه جميعًا فى ليلتهما، ولا بأس أن يغشى إحداهما ويكف عن الأخرى ما لم يرد به الضرر والميل‏.‏

باب دُخُولِ الرَّجُلِ عَلَى نِسَائِهِ فِى الْيَوْمِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الْعَصْرِ، دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ، فَيَدْنُو مِنْ إِحْدَاهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، فَاحْتَبَسَ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا إنما كان يفعله، عليه السلام، فى النادر، ولم يكن يفعله أبد الدهر، وإنما كان يفعله لما أباح الله تعالى له بقوله‏:‏ ‏(‏ترجى من تشاء منهن‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 51‏]‏، فكان يذكرهن بهذا الفعل فى الغب بإفضاله عليهن فى العدل بينهن؛ لئلا يظنوا أن القسمة حق لهن عليه‏.‏

وقال غيره‏:‏ ليس حقيقة القسم بين النساء إلا فى الليل خاصة؛ لأن للرجل التصرف نهاره فى معيشته وما يحتاج إليه من أموره، فإذا كان دخوله على امرأته فى غير يومها دخولاً خفيفًا فى حاجة يقضيها فلا أعلم خلافًا بين العلماء فى جواز ذلك‏.‏

وذكر ابن المواز عن مالك، قال‏:‏ لا يأتى إلى واحدة من نسائه فى يوم الأخرى إلا لحاجة أو عيادة، قال غيره‏:‏ وأما جلوسه عندها ومحادثتها تلذذًا بها، فلا يجوز ذلك عندهم فى غير يومها‏.‏

باب اسْتئذانَ الرَّجُلُ نِسَاءَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِى بَيْتِ بَعْضِهِنَّ فَأَذِنَّ لَهُ

- فيه عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْأَلُ فِى مَرَضِهِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ‏:‏ ‏(‏أَيْنَ أَنَا غَدًا‏؟‏ أَيْنَ أَنَا غَدًا‏)‏‏؟‏ يُرِيدُ يَوْمَ عَائِشَةَ، فَأَذِنَ لَهُ أَزْوَاجُهُ يَكُونُ حَيْثُ شَاءَ، فَكَانَ فِى بَيْتِ عَائِشَةَ حَتَّى مَاتَ عِنْدَهَا، قَالَتْ عَائِشَةُ‏:‏ فَمَاتَ فِى الْيَوْمِ الَّذِى كَانَ يَدُورُ عَلَىَّ فِيهِ فِى بَيْتِى، فَقَبَضَهُ اللَّهُ، وَإِنَّ رَأْسَهُ لَبَيْنَ نَحْرِى وَسَحْرِى، وَخَالَطَ رِيقُهُ رِيقِى‏.‏

وفيه‏:‏ حب الرجل لبعض أزواجه أكثر من بعض‏.‏

وفيه‏:‏ أن القسمة حق للزوجة، ولذلك استأذنهن، عليه السلام، أن يمرض فى بيت عائشة، وإنما فعل ذلك لأنها كانت أرفق به وألطف بتمريضه مع أن المرض إذا كان ثقيلاً لا يقدر فيه على الانتقال والحركة سقطت القسمة‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ إذا مرض مرضًا يقوى معه على الاختلاف فيما بينهن كان له أن يعدل بينهن فى القسم، إلا أن يكون مرضه مرضًا قد غلبه ولا يقدر على الاختلاف، فلا بأس أن يقيم حيث أحب، ما لم يكن منه ميلاً، فإذا صح عدل بينهن فى القسمة، ولم يحتسب للتى لم يقم عندها ما أقام عند غيرها، وهو قول مالك‏.‏

واتفقوا إذا مرضت المرأة أن لها أيامها من القسمة كالصحيحة، واختلفوا إذا اشتد مرضها وثقلت، فقال الشافعى‏:‏ لا بأس أن يقيم عندها حتى تخف أو تموت، ثم يوفى من بقى من نسائه مثل ما أقام عندها، وبه قال أبو ثور، وقال الكوفيون‏:‏ ما مضى هدر، ويستأنف العدل فيما يستقبل‏.‏

وقولها‏:‏ ‏(‏بين نحرى وسحرى‏)‏، فالنحر معروف وهو الصدر‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ قال أبو زيد‏:‏ وبعضه عن ابن عمر وغيره‏:‏ السحر ما تعلق بالحلقوم، ولهذا قيل للرجل إذا جبن‏:‏ قد انتفخ سحره، كأنهم إنما أرادوا الرئة وما معها‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ هو السحر‏.‏

وقال الفراء‏:‏ وأكثر العرب على ما قال أبو عبيدة‏.‏

باب حُبِّ الرَّجُلِ بَعْضَ نِسَائِهِ أَفْضَلَ مِنْ بَعْضٍ

- فيه‏:‏ عُمَرَ، دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ، فَقَالَ‏:‏ يَا بُنَيَّةِ، لا يَغُرَّنَّكِ هَذِهِ الَّتِى أَعْجَبَهَا حُسْنُهَا وحُبُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهَا- يُرِيدُ عَائِشَةَ- فَقَصَصْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَتَبَسَّمَ‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وقوله‏:‏ لا يغرنك أن كانت جارتك أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، يريد عائشة، ففيه دليل على أنه لا حرج على من كان عنده جماعة نسوة فى إيثار بعضهن فى المحبة على بعض إذا سوى بينهن فى القسمة، ومثله قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏اللهم هذا قسمى فيما أملك، فلا تلمنى فيما لا أملك‏)‏، والذى سأل ربه ألا يلومه فيه ما كان لا يملكه من نفسه، هو ما جبلت عليه القلوب من الميل بالمحبة إلى من هويته‏.‏

وذلك مما لا سبيل للعباد إلى خلافه ودفعه عنه، وهو المعنى الذى أخبر عنه تعالى أنهم لا يطيقونه من معانى العدل بين النساء، فعلم بذلك أن كل ما كان عارضًا لقلب ابن آدم من شىء مال إليه بالمحبة والهوى مما لم يجتلبه المرء إليه باكتساب ولم يتجاوز به العارض منه فى قلبه إلى ما يكرهه الله ولا يرضاه من العمل بجوارحه، فلا حرج عليه فيه ولا تبعة تلحقه فيه فيما بينه وبين الله بسبب ما عرض له من فرط هوى وصبابة نفس‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ ولما كان القلب لا يملك ولا يستطاع العدل فيه وضع الله عن عباده الحرج فى ذلك، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 286‏]‏، وحسب الرجل أن يسوى بين نسائه فى القوت والإدام واللباس على قدرها وكفايتها، ويقسم لها يومًا وليلة، فيبيت عندها، وسواء كانت حائضًا أو طاهرًا، ثم لا حرج عليه أن يوسع على إحداهن دون غيرها من صواحباتها بأكثر من ذلك من ماله‏.‏

فأما المسيس فعلى قدر نشاطه إذا لم يكن حبسه لنفسه عنها إيفاء لغيرها ممن هى أحب إليه وألصق بقلبه، فلذلك لا يحل له أن يفعله، وهو من الميل الذى نهى الله عنه، فأما أن ينشط لهذه فى ليلتها ويكسل عن هذه فى ليلتها، فلا حرج عليه فى ذلك، وذلك من الذى يقع فى القلب مما لا يملكه العبد‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه أن الصهر قد يعاتب ابنته على الإفراط فى الغيرة على زوجها، وينهاها عن مساماة من هى عند الزوج أحظى منها؛ لئلا يحرج ذلك الزوج ويئول الأمر إلى الفرقة‏.‏

باب الْمُتَشَبِّعِ بِمَا لَمْ يَنَلْ وَمَا يُنْهَى مِنِ افْتِخَارِ الضَّرَّةِ

- فيه‏:‏ أَسْمَاءَ، أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِى ضَرَّةً، فَهَلْ عَلَىَّ جُنَاحٌ إِنْ تَشَبَّعْتُ مِنْ زَوْجِى غَيْرَ الَّذِى يُعْطِينِى‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلابِسِ ثَوْبَى زُورٍ‏)‏‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ قوله‏:‏ المتشبع بما لم يعط، يعنى المتزين بأكثر مما عنده يتكثر بذلك ويتزين بالباطل، كالمرأة تكون للرجل ولها ضرة، فتتشبع بما تدعيه من الحظوة عند زوجها بأكثر مما عنده لها تريد بذلك غيظ صاحبتها وإدخال الأذى عليها، وكذلك هذا فى الرجل أيضًا، وأما قوله‏:‏ كلابس ثوبى زور، فإنه الرجل يلبس ثياب أهل الزهد فى الدنيا، يريد بذلك الناس ويظهر من التخشع والتقشف أكثر مما فى قلبه، فهذه ثياب الزور والرياء‏.‏

وفيه وجه آخر أيضًا‏:‏ أن يكون أراد بالثياب الأنفس، والعرب تفعل ذلك كثيرًا، يقال‏:‏ فلان نقى الثوب، إذا كان بريئًا من الدنس والآثام، وفلان دنس الثياب، إذا كان مغموصًا عليه فى دينه، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وثيابك فطهر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 4‏]‏‏.‏

وقال أبو سعيد الضرير فى معنى قوله‏:‏ كلابس ثوبى زور، هو أن يستعير شاهد الزور ثوبين يتجمل بهما ويتحلى بهما عند الحاكم، وإنما يريد أن يقيم شهادته‏.‏

وقال بعض أهل المعرفة بلسان العرب‏:‏ ولقوله‏:‏ ثوبى، التثنية معنى صحيح؛ لأن كذب المتحلى بما لم يعط مثنى، فهو كاذب على نفسه بما لم يأخذ، وكاذب على غيره بما لم يبذل‏.‏

باب الْغَيْرَةِ

وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ‏:‏ لَوْ رَأَيْتُ رَجُلا مَعَ امْرَأَتِى لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ‏.‏

فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، لأنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّى‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ ابن مسعود، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، وَمَا أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، مَا أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَرَى عَبْدَهُ أَوْ أَمَتَهُ تَزْنِى، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلا، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَسْمَاءَ قَالَ النَّبِىّ‏:‏ ‏(‏لا شَىْءَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ لاَ يَأْتِىَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَسْمَاءَ، تَزَوَّجَنِى الزُّبَيْرُ، وَمَا لَهُ فِى الأرْضِ مِنْ مَالٍ وَلا مَمْلُوكٍ، وَلا شَىْءٍ غَيْرَ نَاضِحٍ، وَغَيْرَ فَرَسِهِ، فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ، وَأَسْقِى الْمَاءَ، وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ، وَأَعْجِنُ وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ، وَكَانَ يَخْبِزُ جَارَاتٌ لِى مِنَ الأنْصَارِ، وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ، وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِى أَقْطَعَهُ النَّبِىّ عَلَى رَأْسِى، وَهِىَ مِنِّى عَلَى ثُلُثَىْ فَرْسَخٍ، فَجِئْتُ يَوْمًا وَالنَّوَى عَلَى رَأْسِى، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَدَعَانِى، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِخْ، إِخْ، لِيَحْمِلَنِى خَلْفَهُ‏)‏، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ، وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ- وَكَانَ أَغْيَرَ النَّاسِ- فَعَرَفَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم أَنِّى قَدِ اسْتَحْيَيْتُ، فَمَضَى، فَجِئْتُ الزُّبَيْرَ، فَقُلْتُ‏:‏ لَقِيَنِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَلَى رَأْسِى النَّوَى، وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَأَنَاخَ لأرْكَبَ، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ، وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ، فَقَالَ‏:‏ وَاللَّهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى كَانَ أَشَدَّ عَلَىَّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ، قَالَتْ‏:‏ حَتَّى أَرْسَلَ إِلَىَّ أَبُو بَكْرٍ ‏[‏بَعْدَ ذَلِكَ‏]‏ بِخَادِمٍ تَكْفِينِى سِيَاسَةَ الْفَرَسِ، فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَنِى‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، قَالَ‏:‏ كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتِ الَّتِى النَّبِىُّ عليه السَّلام فِى بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ، فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ، فَانْفَلَقَتْ، فَجَمَعَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِى كَانَ فِى الصَّحْفَةِ، وَيَقُولُ‏:‏ ‏(‏غَارَتْ أُمُّكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ جَابِر، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، فَأَبْصَرْتُ قَصْرًا، فَقُلْتُ‏:‏ لِمَنْ هَذَا‏؟‏ قَالُوا‏:‏ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَدْخُلَهُ، فَلَمْ يَمْنَعْنِى إِلا عِلْمِى بِغَيْرَتِكَ‏)‏، قَالَ عُمَرُ‏:‏ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى يَا رسول اللَّه، أَوَعَلَيْكَ أَغَارُ‏؟‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم جُلُوسٌ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُنِى فِى الْجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، فَقُلْتُ‏:‏ لِمَنْ هَذَا‏؟‏ قَالُوا‏:‏ هَذَا لِعُمَرَ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَكَ، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا‏)‏، فَبَكَى عُمَرُ وَهُوَ فِى الْمَجْلِسِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَوَعَلَيْكَ أَغَارُ يَا رَسُولَ اللَّهِ‏؟‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ وهذه الغيرة التى جاءت فى هذه الأحاديث فى وصف الله تعالى ليست منه على حسب ما هى عليه فى المخلوقين؛ لأنه لا تجوز عليه صفات النقص تعالى، إذ لا تشبه صفاته صفات المخلوقين، والغيرة فى صفاته بمعنى الزجر عن الفواحش والتحريم لها والمنع منها؛ لأن الغيور هو الذى يزجر عما يغار عليه، وقد بين ذلك بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ومن غيرته حرم الفواحش‏)‏، أى زجر عنها ومنع منها، وبقوله فى حديث أبى هريرة‏:‏ ‏(‏وغيرة الله أن لا يأتى المؤمن ما حرم الله‏)‏، وقوله فى حديث سعد‏:‏ ‏(‏لأنا أغير من سعد، والله أغير منى‏)‏، ومعنى ذلك أنه لزجور عن المحارم وأنا أزجر منه، والله أزجر من الجميع عما لا يحل، وكذلك قوله‏:‏ ‏(‏غارت أمكم‏)‏، أى زجرت عن إهداء ما أهدت صاحبتها‏.‏

قال المهلب‏:‏ وأما نقل النوى وسياسة الفرس وخرز الغرب، فلا يلزم المرأة شىء من ذلك إلا أن تتطوع به، كما تطوعت أسماء‏.‏

قال ابن حبيب‏:‏ وكذلك الغزل والنسج ليس للرجل على امرأته ذلك بحال إلا أن تتطوع، وليس عليه إخدامها إذا كان معسرًا، وإن كانت ذات قدر وشرف، وعليها الخدمة الباطنة كما هى على الدنية، وهكذا أوضح لى ابن الماجشون وأصبغ، وسأتقصى مذاهب العلماء فى هذه المسألة فى كتاب النفقات بعد هذا، إن شاء الله‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى حديث أسماء من الفقه أن المرأة الشريفة إذا تطوعت من خدمة زوجها بما لا يلزمها كنقل النوى وسياسة الفرس أنه لا ينكر ذلك عليها أب ولا سلطان‏.‏

وفيه‏:‏ إرداف المرأة خلف الرجل وحملها فى جملة ركب من الناس، وليس فى الحديث أنها استترت، ولا أن النبى صلى الله عليه وسلم أمرها بذلك، فعلم منه أن الحجاب إنما هو فرض على أزواج النبى، عليه السلام، خاصة كما نص الله فى القرآن بقوله‏:‏ ‏(‏يا نساء النبى‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وفيه‏:‏ غيرة الرجل عند ابتذال أهله فيما يشق عليهن من الخدمة، وأنفة نفسه من ذلك، لاسيما إذا كانت ذات حسب وأبوة، وكذلك عز على النبى صلى الله عليه وسلم إفراط امتهانها ولم يلمها على ذلك، ولا وبخ الزبير على تكليفه لها ذلك لما علم من طيب نفسها به‏.‏

وفى حديث القصعة الصبر للنساء على أخلاقهن وعوجهن؛ لأنه عليه السلام، لم يوبخها على ذلك ولا لامها، ولا زاد على قوله‏:‏ ‏(‏غارت أمكم‏)‏، وقد تقدم اختلاف العلماء فيمن استهلك شيئًا لصاحبه هل يلزمه غرم مثله، فى كتاب المظالم والغصب عند ذكر حديث القصعة، فأغنى عن إعادته‏.‏

وفى حديث جابر، أنه إذا علم من الإنسان خلق، فلا يتعرض لما ينافر خلقه ويؤذيه فى ذلك الخلق، كما فعل النبى صلى الله عليه وسلم حين لم يدخل القصر الذى كان لعمر لمعرفته بغيرته، وفى قوله‏:‏ أعليك أغار يا رسول الله، أن الرجل الصالح المعروف بالخير والصلاح لا يجب أن يظن به شىء من السوء‏.‏

وقوله‏:‏ لضربته بالسيف غير مصفح، وهو من صفحة السيف، وهو عرضه‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ يقال‏:‏ أصفحت بالسيف فأنا مصفح، والسيف يصفح به إذا أنت ضربت بعرضه، وأراد سعد أنه لو وجد رجلاً مع أهله لضربه بحد سيفه لا بعرضه، ولم يصبر أن يأتى بأربعة شهداء، وسيأتى فى كتاب الديات الحكم فيمن وجد رجلاً مع امرأته فقتله‏.‏

وذكر ابن قتيبة فى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر‏)‏، ‏(‏فإذا امرأة شوهاء إلى جانب قصر‏)‏، من حديث ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وفسره فقال‏:‏ الشوهاء الحسنة الرائعة، حدثنى بذلك أبو حاتم، عن أبى عبيدة، عن المنتجع، قال‏:‏ ويقال‏:‏ فرس شوهاء، ولا يقال للذكر أشوه، ويقال‏:‏ لا تشوه علىّ، إذا قال‏:‏ ما أحسنك، أى لا تصبنى بعين‏.‏

وقال الزبيرى‏:‏ ذكره أبو على فى التاريخ بفتح التاء والواو وتشديد الواو‏.‏

قال المؤلف‏:‏ يشبه أن تكون هذه الرواية الصواب، وتتوضأ تصحيف، والله أعلم؛ لأن الحور طاهرات ولا وضوء عليهن، فكذلك كل من دخل الجنة لا تلزمه طهارة ولا عبادة، وحروف شوهاء يمكن تصحيفها بحروف تتوضأ؛ لقرب صور بعضها من بعض، والله أعلم‏.‏

باب غَيْرَةِ النِّسَاءِ وَوَجْدِهِنَّ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَ لِى النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏إِنِّى لأعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّى رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنْتِ عَلَىَّ غَضْبَى‏)‏، قَالَتْ‏:‏ فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّى رَاضِيَةً، فَإِنَّكِ تَقُولِينَ‏:‏ لا، وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَىَّ غَضْبَى، قُلْتِ‏:‏ لا، وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ‏)‏، قَالَتْ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَهْجُرُ إِلا اسْمَكَ‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ‏:‏ مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ؛ لِكَثْرَةِ ذِكْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهَا، وَثَنَائِهِ عَلَيْهَا، وَقَدْ أُوحِىَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ لَهَا فِى الْجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ‏.‏

وفيه الصبر على النساء وعلى ما يبدو منهن من الجفاء والحرج عند الغيرة لما جبلن عليه منها، وأنهن لا تملكنها، فعفى عن عقوبتهن على ذلك وعذرهن الله فيه‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقولها‏:‏ ما أهجر إلا اسمك، يدل على أن الاسم فى المخلوقين غير المسمى، ولو كان المسمى وهجرت اسمه لهجرته بعينه، ويدل على ذلك أن من قال‏:‏ أكلت اسم العسل، واسم الخبز، فإنه لا يفهم أنه أكل الخبز والعسل، وكذلك إذا قال‏:‏ لقيت اسم زيد، لا يفهم منه أنه لقى زيدًا، ويبين ذلك ما نشاهده من تبديل أسماء المملوكين وتبديل كنى الأحرار ولا تتبدل الأشخاص مع ذلك‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما يصح عند تحقيق النظر أن يكون الاسم هو المسمى فى الله تعالى وحده لا فيما سواه من المخلوقين، لمباينته تعالى فى أسمائه وصفاته حكم أسماء المخلوقين وصفاتهم‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا كان الاسم غير المسمى فى المخلوقين، فيلزم كذلك فى البارى تعالى، قيل‏:‏ هذا غير لازم؛ لأن طرق العلم بالشىء إنما يؤخذ من جهة الاستدلال عليه بمثله وشبهه، أو من حكم ضده، وعلمنا يقينًا أن الله تعالى لا شبه له بقوله‏:‏ ‏(‏ليس كمثله شىء‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، وبقوله‏:‏ ‏(‏ولم يكن له كفوًا أحد‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 3‏]‏، فثبت بذلك أنه لا ضد له؛ لأن حكم الضد إنما يعلم من حكم ضده، فلما لم يكن لله شبه ولا ضد يستدل على اسمه إذا كان غير المسمى، لم يجز لنا أن نقول بذلك فى الله تعالى؛ لإجماع أهل السنة على أن صفات الله تعالى لا تشبه صفات المخلوقين من قبل أن الشيئين لا يشتبهان باتفاق أسمائهما، وإنما يشتبهان بأنفسهما، ولما كانت نفس البارى سبحانه وتعالى غير مشبهة لشىء من العالم، كانت كذلك صفاته وأسماؤه، ألا ترى وصف البارى تعالى بأنه موجود ووصف الإنسان بذلك لا يوجب تشابهًا بينهما، وإن كانا قد اتفق فى حقيقة الوجود، هذا قول مجاهد‏.‏

وسيأتى فى كتاب الرد على الجهمية، وهو الجزء الثانى من الاعتصام فى آخر هذا الديوان فى باب السؤال بأسماء الله والاستعاذة بها تبيين مذاهب أهل السنة أن اسم الله عز وجل هو المسمى، فهو موضع ذكره إن شاء الله، وسأذكر فى كتاب الأدب فى باب حسن العهد من الإيمان تفسير الفضل المذكور‏.‏

باب ذَبِّ الرَّجُلِ عَنِ ابْنَتِهِ فِى الْغَيْرَةِ وَالإنْصَافِ

- فيه‏:‏ الْمِسْوَر، سَمِعْتُ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ يقول‏:‏ ‏(‏إِنَّ بَنِى هِشَامِ ابْنِ الْمُغِيرَةِ اسْتَأْذَنُونِى فِى أَنْ يُنْكِحُوا ابْنَتَهُمْ عَلِىَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ، فَلا آذَنُ، ثُمَّ لا آذَنُ، ثُمَّ لا آذَنُ إِلا أَنْ يُرِيدَ ابْنُ أَبِى طَالِبٍ أَنْ يُطَلِّقَ ابْنَتِى، وَيَنْكِحَ ابْنَتَهُمْ، فَإِنَّمَا هِىَ بَضْعَةٌ مِنِّى، يُرِيبُنِى مَا أَرَابَهَا، وَيُؤْذِينِى مَا آذَاهَا‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى هذا من الفقه أنه قد يحكم فى أشياء لم تبلغ التحريم بأن يمنع منها من يريدها، وإن كانت حلالاً، لما يلحقها من الكراهية فى العرض أو المضرة فى المال‏.‏

وفيه‏:‏ بقاء عار الآباء فى أعقابهم وأنهم يعيرون به، ولا يوازون الأشراف كما عير رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أبى جهل وهى مسلمة بعداوة أبيها لله، فحط بذلك منزلتها عن أن تحل محل ابنته، وكذلك السابقة إلى الخير والشرف فى الدين تبقى فى العقب فضله، ويرعى فيهم أمره، ألا ترى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكان أبوهما صالحًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 82‏]‏‏.‏

وفيه‏:‏ دليل ألا تجتمع أمة وحرة تحت رجل إلا برضا الحرة؛ لأن النبى، عليه السلام، لم يجعل بنت عدو الله مكافئة لبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكذلك المرأتان الغير متكافئتين بالحرية فى الإسلام لا تجتمعان إلا برضا الحرة، ألا ترى أن رضا فاطمة لو تأتى منها لما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؛ لأنه قال‏:‏ ‏(‏يؤذينى ما آذاها وأخاف أن تفتن فى دينها‏)‏، ولم تكن بنت عدو الله مأمونة عليها أن تكون ضرة وصاحبة لها، ولو لم يحزنها ذلك ولا خشى منها الفتنة؛ لما منعه من حال نكاح بنت أبى جهل، ومن هذا المعنى وحديث بريرة وجب تخيير الحرة إذا تزوج عليها أمة؛ لأن بريرة حين عتقت فارقته؛ لأن زوجها لم يكافئها لحريتها، فكذلك الحرة لا تكافئها المملوكة‏.‏

واختلف العلماء فى ذلك، فقال مالك‏:‏ إذا نكح أمة على حرة يجوز النكاح، والحرة بالخيار‏.‏

هذه رواية ابن وهب عنه، وروى عنه ابن القاسم أنه سُئل عمن تزوج أمة وهو يجد طولاً إلى حرة، قال‏:‏ يفرق بينهما، قيل‏:‏ إنه يخاف العنت، قال‏:‏ السوط يضرب به، ثم خففه بعد ذلك، قلت‏:‏ فإن كان لا يخشى العنت، قال‏:‏ كان يقول‏:‏ ليس له أن يتزوجها‏.‏

وقال الكوفيون، والثورى، والأوزاعى، والشافعى‏:‏ لا يجوز له أن يتزوج أمة وتحته حرة، ولا يصح نكاح الأمة، ولا فرق بين إذن الحرة وغير إذنها‏.‏

واختلفوا فى نكاح الحرة على الأمة، فقالت طائفة‏:‏ النكاح ثابت، روى هذا عن عطاء، وسعيد بن المسيب، وبه قال الكوفيون، والشافعى، وأبو ثور، وفيه قول ثان، وهو أن الحرة بالخيار إذا علمت، هذا قول الزهرى، ومالك‏.‏

وفيها قول ثالث، وهو أن يكون نكاح الحرة طلاقًا للأمة، روى هذا عن ابن عباس، وبه قال أحمد، وإسحاق‏.‏

وقد تقدم معنى حديث المسور مستوعبًا فى كتاب الجهاد فى باب ما ذكر من درع النبى صلى الله عليه وسلم وعصاه وسيفه؛ لأن الحديث هناك أتم منه فى هذا الباب، والحمد لله‏.‏

باب يَقِلُّ الرِّجَالُ وَيَكْثُرُ النِّسَاءُ

وَقَالَ أَبُو مُوسَى، عَنِ النَّبِىِّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏وَتَرَى الرَّجُلَ الْوَاحِدَ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً يَلُذْنَ بِهِ مِنْ قِلَّةِ الرِّجَالِ، وَكَثْرَةِ النِّسَاءِ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَنَس، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَكْثُرَ الْجَهْلُ، وَيَكْثُرَ الزِّنَا، وَيَكْثُرَ شُرْبُ الْخَمْرِ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ هذا إنما يكون من أشراط الساعة، كما قال عليه السلام، ويمكن أن تكون قلة الرجال من اشتداد الفتن وترادف المحن، فيقتل الرجال، والله أعلم‏.‏

ويحتمل قوله‏:‏ ‏(‏القيم الواحد‏)‏، معنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون قيمًا عليهن وناظرًا لهن وقائمًا بأمورهن، ويحتمل أن يكون اتباع النساء له على غير الحل، والله أعلم‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ ولما احتمل الوجهين نظرنا هل روى فى ذلك شىء يدل على أحدهما، فذكر على بن معبد بإسناده عن حذيفة، قال‏:‏ سمعت النبى، عليه السلام، يقول‏:‏ ‏(‏إذا عمت الفتنة يميز الله أصفياءه وأولياءه حتى تطهر الأرض من المنافقين والقتالين، ويتبع الرجل يومئذ خمسون امرأة، هذه تقول‏:‏ يا عبد الله، استرنى، يا عبد الله، آونى‏)‏، فدل هذا الحديث على القول الأول‏.‏

باب لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلا ذُو مَحْرَمٍ وَالدُّخُولُ عَلَى الْمُغِيبَةِ

- فيه‏:‏ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ‏)‏، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏الْحَمْوُ الْمَوْتُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏لا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلا مَعَ ذِى مَحْرَمٍ‏)‏، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، امْرَأَتِى خَرَجَتْ حَاجَّةً، وَاكْتُتِبْتُ فِى غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ‏:‏ ‏(‏ارْجِعْ، فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏(‏الحمو الموت‏)‏، النهى عن أن يدخل على المغيبة صهر ولا غيره خوف الظنون ونزغات الشيطان؛ لأن الحمو قد يكون من غير ذى المحارم، وإنما أباح، عليه السلام، أن يخلو مع المرأة من كان ذا محرم منها‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وبمثل ذلك قال جماعة من الصحابة والتابعين‏:‏ روينا عن عمر بن الخطاب، أنه قال‏:‏ إياكم والمغيبات، ألا فوالله أن الرجل ليدخل على المرأة، فلأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه من أن يزنى، فما يزال الشيطان يخطب أحدهما إلى الآخر حتى يجمع بينهما‏)‏‏.‏

وروينا عن عمرو بن العاص أنه أرسل إلى على بن أبى طالب يستأذنه، وكانت له حاجة إلى أسماء، فقيل له‏:‏ ليس ثم على، ثم أرسل إليه الثانية، فقيل‏:‏ هو ثم، فلما خرج إليه، قال عمرو‏:‏ إن لى إلى أسماء حاجة فأدخل‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ وما سألت عن على، قال‏:‏ حاجتك إلى أسماء، قال‏:‏ إنا نهينا أن نكلمهن إلا عند أزواجهن‏.‏

وقال عمرو بن قيس الملائى‏:‏ ثلاث لا ينبغى للرجل أن يثق بنفسه عند واحدة منهن‏:‏ لا يجالس أصحاب زيغ، فيزيغ الله قلبه بما زاغ به قلوبهم، ولا يخلو رجل بامرأة، وإن دعاك صاحب سلطان إلى أن تقرأ عليه القرآن فلا تفعل‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فلا يجوز أن يخلو رجل بامرأة ليس لها بمحرم فى سفر ولا فى حضر، إلا فى حال لا يجد من الخلوة بها بدًا، وذلك كخلوة بجارية امرأته تخدمه فى حال غيبة مولاتها عنهما، وقد رخص فى ذلك الثورى‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه جواز تبكيت العالم على الجواب إلى المشترك من الأسماء على سبيل الإنكار للمسألة‏.‏

قال الطبرى‏:‏ الحمو عند العرب كل من كان من قبل الزوج أخًا كان أو أبًا أو عمًا فهم الأحماء، فأما أم الزوج، فكان الأصمعى يقول‏:‏ هى حماة الرجل، لا يجوز غير ذلك، ولا لغة فيها غيرها، وإنما عنى بقوله‏:‏ الحمو الموت، أن خلوة الحمو بامرأة أخيه أو امرأة ابن أخيه بمنزلة الموت فى مكروه خلوته بها، وكذلك تقول العرب إذا وصفوا الشىء يكرهونه إلى الموصوف له، قالوا‏:‏ ما هو إلا الموت، كقول الفرزدق لجرير‏:‏ فإنى أنا الموت الذى هو واقع بنفسك فانظر كيف أنت مزاوله وقال ثعلب‏:‏ سألت ابن الأعرابى عن قوله‏:‏ الحمو الموت، فقال‏:‏ هذه كلمة تقولها العرب مثلاً كما تقول‏:‏ الأسد الموت، أى لقاؤه الموت، وكما تقول‏:‏ السلطان نار، أى مثل النار، فالمعنى احذروه كما تحذرون الموت‏.‏

وقال أبو عبيد‏:‏ معناه فليمت ولا يفعل ذلك، وهو بعيد، وإنما الوجه ما قاله ابن الأعرابى، ومن هذا الباب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 17‏]‏، أى مثل الموت فى الشدة والكراهية، ولو أراد نفس الموت لكان قد مات‏.‏

وقال عامر بن فهيرة‏:‏ لقد وجدت الموت قبل دنوه وقال الأصمعى‏:‏ الأحماء من قبل الزوج، والأختان من قبل المرأة، والصهر يجمعهما، والحماة أم الزوج، والختنة أم المرأة، وفى الحمو لغات‏.‏

قال صاحب العين‏:‏ الحما على مثال قفا‏:‏ أبو الزوج وجميع قرابته، والجمع أحماء، تقول‏:‏ رأيت حماه ومررت بحماها، وتقول فى هذه اللغة إذا أفرد‏:‏ هذا حما، وفيه لغة أخرى حموك مثل أبوك، تقول‏:‏ هذا حموها، ومررت بحميها ورأيت حماها، فإذا لم تضفه سقطت الواو، فتقول‏:‏ حم، كما تقول‏:‏ أب، وفيه لغة أخرى‏:‏ حمء، بالهمز مثل خبء، ودفء، عن الفراء، وحكى الطبرى لغة رابعة‏:‏ حمها بترك الهمز‏.‏

وفى حديث ابن عباس إباحة الرجوع عن الجهاد إلى إحجاج امرأته؛ لأن فرضًا عليه سترها وصيانتها، والجهاد فى ذلك الوقت كان يقوم به غيره، فلذلك أمره عليه السلام أن يحج معها إذ لم يكن لها من يقوم بسترها فى سفرها ومبيتها‏.‏

باب مَا يَجُوزُ أَنْ يَخْلُوَ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ عِنْدَ النَّاسِ

- فيه‏:‏ أَنَس، قَالَ‏:‏ جَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأنْصَارِ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَخَلا بِهَا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَاللَّهِ إِنَّكُنَّ لأحَبُّ النَّاسِ إِلَىَّ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ فيه من الفقه أنه لا بأس للعالم والرجل المعلوم بالصلاح أن يخلو بالمرأة إلى ناحية عن الناس وتسر إليه بمسائلها وتسأله عن بواطن أمرها فى دينها، وغير ذلك من أمورها، فإن قيل‏:‏ ليس فى الحديث أنه خلا بها عند الناس كما ترجم، قيل‏:‏ قول انس‏:‏ فخلا بها، يدل أنه كان مع الناس، فتنحى بها ناحية، ولا أقل من أن يكون مع أنس راوى الحديث وناقل القصة، ولم يرد بقوله‏:‏ فخلا بها، أنه غاب عن أبصارهم، وإنما خلا بها حيث لا يسمع الذين بحضرته كلامها ولا شكواها إليه، ألا ترى أنهم سمعوا قوله لها‏:‏ ‏(‏أنتم أحب الناس إلى‏)‏ يريد الأنصار قوم المرأة‏.‏

باب مَا يُنْهَى مِنْ دُخُولِ الْمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْمَرْأَةِ

- فيه‏:‏ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ عليه السَّلام كَانَ عِنْدَهَا وَفِى الْبَيْتِ مُخَنَّثٌ، فَقَالَ الْمُخَنَّثُ لأخِى أُمِّ سَلَمَةَ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِى أُمَيَّةَ‏:‏ إِنْ فَتَحَ اللَّهُ لَكُمُ الطَّائِفَ غَدًا، أَدُلُّكَ عَلَى بِنْتِ غَيْلانَ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يَدْخُلَنَّ هَذَا عَلَيْكُنَّ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ أصل هذا الحديث قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها حتى كأنه يراها‏)‏، فلما سمع النبى صلى الله عليه وسلم وصف المخنث للمرأة بهذه الصفة التى تهيم نفوس الناس، منع أن يدخل عليهن؛ لئلا يصفهن للرجال فيسقط معنى الحجاب‏.‏

قال غيره‏:‏ وفيه من الفقه أنه لا ينبغى أن يدخل على النساء من المؤنثين من يفطن لمحاسنهن ويحسن وصفهن، وأن من علم محاسنهن لا يدخل فى معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏غير أولى الإربة من الرجال‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏، وإنما غير أولى الإربة الأبله العنين الذى لا يفطن لمحاسنهن، ولا إرب له فيهن، وهذا الحديث أصل فى نفى كل من يتأذى به وإبعاده بحيث يؤمن أذاه‏.‏

قال المهلب‏:‏ قال ابن حبيب‏:‏ والمخنث هو المؤنث من الرجال وإن لم تعرف فيه الفاحشة، وهو مأخوذ من تكسر الشىء، ومنه حديثه الآخر أنه نهى عليه السلام عن اختناث الأسقية، وهو أن تكسر أفواه الأسقية ليشرب منها‏.‏

وكان يدخل على أزواج النبى صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان عندهن من غير ذوى الإربة‏.‏

حدثنى ابن حبيب، عن مالك فى قوله‏:‏ ‏(‏تقبل بأربع وتدبر بثمان‏)‏، أنه أراد أعكانها؛ لأن العكن هى أربع طوابق فى بطنها بعضها فوق بعض، فإذا بلغت خصريها صارت أحواقها ثمانيًا أربعًا من هاهنا، وأربعًا من هاهنا، وقوله‏:‏ ‏(‏تدبر بثمان‏)‏، ولم يقل‏:‏ بثمانية، وإن كان يقع ذلك على الأطراف، والأطراف مذكرة، فإنما أراد العطن التى هى مؤنثة، واحدها عكنة؛ لأن كل جزء من العطن يلزمه من التأنيث ما يلزم جمعه، وهذا من التأنيث المحمول على المعنى‏.‏

وقال ابن الكلبى‏:‏ هذا المؤنث يسمى‏:‏ هيت، وهو مولى لعبد الله بن أبى أمية أخى أم سلمة لأمها، وكان طوس مولى عبد الله بن أبى أمية ومن قبله سرى إلى طوس الخنث‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى وصف المخنث لمحاسن المرأة حجة لمن أجاز بيع الأعيان الغائبة على الصفة كما قاله مالك خلافًا للشافعى، ولو لم تكن الصفة فى هذا الحديث بمعنى الرؤية لم ينه النبى، عليه السلام، المؤنث عن الدخول على النساء، والله أعلم، وقد تقدمت هذه المسألة فى كتاب البيوع‏.‏

باب نَظَرِ الْمَرْأَةِ إِلَى الْحَبَشِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ رَأَيْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَسْتُرُنِى بِرِدَائِهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى الْحَبَشَةِ يَلْعَبُونَ فِى الْمَسْجِدِ، حَتَّى أَكُونَ أَنَا الَّتِى أَسْأَمُ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الْجَارِيَةِ الْحَدِيثَةِ السِّنِّ الْحَرِيصَةِ عَلَى اللَّهْوِ‏.‏

وفى هذا الحديث‏:‏ حجة لمن أجاز النظر إلى اللعب فى الوليمة وغيرها‏.‏

وفيه‏:‏ جواز نظر النساء إلى اللهو واللعب، لاسيما الحديثة السن، فإن النبى عليه السلام قد عذرها لحداثة سنها‏.‏

وفيه‏:‏ أنه لا بأس بنظر المرأة إلى الرجل من غير ريبة، ألا ترى إلى ما اتفق عليه العلماء فى الشهادة على المرأة أن ذلك لا يكون إلا بالنظر إلى وجهها، ومعلوم أنها تنظر إليه حينئذ كما ينظر إليها، وإنما أراد البخارى بهذا الحديث، والله أعلم، الرد لحديث ابن شهاب، عن نبهان مولى أم سلمة، عن أم سلمة، أنها قالت‏:‏ كنت أنا وميمونة جالستين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن عليه ابن أم مكتوم الأعمى، فقال‏:‏ ‏(‏احتجبا منه‏)‏، فقلنا‏:‏ يا رسول الله، أليس أعمى لا يبصرنا‏؟‏ قال‏:‏ أفعمياوان أنتما‏؟‏‏)‏، وحديث عائشة أصح منه؛ لأن نبهان ليس بمعروف بنقل العلم ولا يروى إلا حديثين، أحدهما هذا، والثانى فى المكاتب إذا كان معه ما يؤدى احتجبت منه سيدته، فلا يشتغل بحديث نبهان لمعارضة الأحاديث الثابت له وإجماع العلماء‏.‏

باب خُرُوجِ النِّسَاءِ لِحَوَائِجِهِنَّ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ خَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ لَيْلا، فَرَآهَا عُمَرُ فَعَرَفَهَا، فَقَالَ‏:‏ إِنَّكِ وَاللَّهِ يَا سَوْدَةُ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا، فَرَجَعَتْ إِلَى النَّبِىِّ عليه السَّلام فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ، وَهُوَ فِى حُجْرَتِى يَتَعَشَّى، وَإِنَّ فِى يَدِهِ لَعَرْقًا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَرُفِعَ عَنْهُ، وَهُوَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏قَدْ أَذِنَ اللَّهُ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَوَائِجِكُنَّ‏)‏‏.‏

فى هذا الحديث دليل على جواز خروج النساء لكل ما أبيح لهن الخروج فيه من زيارة الآباء والأمهات وذوى المحارم والقرابات، وغير ذلك مما بهن الحاجة إليه، وذلك فى حكم خروجهن إلى المساجد‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفيه جواز مكالمة المرأة من وراء الستر‏.‏

باب اسْتِئْذَانِ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا فِى الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ

- فيه‏:‏ ابُن عُمَرَ، قَالَ النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلا يَمْنَعْهَا‏)‏‏.‏

قد تقدم هذا الباب فى كتاب الصلاة، ومذاهب العلماء فيه‏.‏

باب مَا يَحِلُّ مِنَ الدُّخُولِ وَالنَّظَرِ إِلَى النِّسَاءِ فِى الرَّضَاعِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، جَاءَ عَمِّى مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَىَّ، فَأَبَيْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّهُ عَمُّكِ، فَأْذَنِى لَهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، الحديث‏.‏

فائدة هذا الباب أنه أصل فى أن الرضاع يحرم من النكاح ما يحرم النسب، ويبيح من الولوج على ذوات المحارم منه مثل ما يبيح من النسب، وقد تقدم ذلك‏.‏

باب لا تُبَاشِرِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا

- فيه‏:‏ ابْن مَسْعُود، قال النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏لا تُبَاشِرُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ، فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا‏)‏‏.‏

قال أبو الحسن بن القابسى‏:‏ هذا من أبين ما تحمى به الذرائع، فإن وصفتها لزوجها بحسن خيف عليه الفتنة، فيكون ذلك سببًا لطلاق زوجته، ونكاحها إن كانت ثيبًا، وإن كانت ذات بعل كان ذلك سببًا لبغضه زوجته ونقصان منزلتها عنده، وإن وصفتها بقبح، كان ذلك غيبة، وقد جاء عن النبى، عليه السلام، أنه نهى الرجل عن مباشرة الرجل مثل نهيه للمرأة سواء‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وحدثنا أبو كريب، قال‏:‏ حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يباشر الرجل الرجل، ولا المرأة المرأة‏)‏‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وفيه من البيان أن مباشرة الرجل الرجل والمرأة المرأة مفضيًا كل واحد منهما بجسده إلى جسد صاحبه غير جائز‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ هذه الأخبار هى على العموم أم على الخصوص‏؟‏ قيل‏:‏ على العموم فيما عنيت به، وعلى الخصوص فيما يحتمله ظاهرها‏.‏

فإن قيل‏:‏ وكيف كان ذلك‏؟‏ قيل‏:‏ لقيام الحجة بجواز مصافحة الرجل الرجل والمرأة المرأة، وذلك مباشرة من كل واحد منهما صاحبه ببعض جسده، فكان معلومًا بذلك، إذ لم يكن فى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يباشر الرجل الرجل ولا المرأة المرأة‏)‏ استثناء مقرون به فى الخبر، وكانت المصافحة مباشرة وهى من الأمور التى ندب المسلمون إليها كالذى حدثنا أحمد بن منصور، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا بكر أبو عبيدة الناجى، حدثنا الحسن، عن البراء بن عازب، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن المسلمين إذا التقيا فتصافحا تحاتت ذنوبهما‏)‏‏.‏

وحدثنا أبو كريب، حدثنا ابن المبارك، حدثنا يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن على بن يزيد، عن القاسم، عن أبى أمامة، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تمام تحيتكم بينكم المصافحة‏)‏، ونحو ذلك من الأخبار الدالة على أن المسلمين مندوبون إلى مباشرة بعضهم بعضًا بالأكف مصافحة عند الالتقاء، وكان محالاً اجتماع الأمر بفعل الشىء والنهى عنه فى حالة واحدة، علم أن الذى ندب العبد إلى المباشرة به من جسم أخيه غير الذى نهى عنه من مباشرته به‏.‏

وقال ابن القاسم‏:‏ سئل مالك عن الخدم يبيتون عراة فى لحاف واحد فى الشتاء، فكرهه وأنكر أن تبيت النساء عراة لا ثياب عليهن؛ لأن ذلك إشراف على العورات، وذلك غير جائز لنهى النبى، عليه السلام، عن مباشرة الرجال والنساء بعضهم بعضًا‏.‏

باب قَوْلِ الرَّجُلِ لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى نِسَائِى

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قال سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ‏:‏ لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ بِمِائَةِ امْرَأَةٍ، تَلِدُ كُلُّ امْرَأَةٍ غُلامًا، يُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ‏:‏ قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِىَ، فَأَطَافَ بِهِنَّ، وَلَمْ تَلِدْ مِنْهُنَّ إِلا امْرَأَةٌ نِصْفَ إِنْسَانٍ، قَالَ النَّبِىُّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏لَوْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ أَرْجَى لِحَاجَتِهِ‏)‏‏.‏

قد تقدم معنى هذا الباب فى باب من طاف على نسائه فى غسل واحد، وأنه لا يجوز أن يجمع الرجل جماعه زوجاته، ولا يطوف عليهن كلهن فى ليلة إلا إذا لم يبدأ القسم بينهن، أو إذا أذن له فى ذلك، أو إذا قدم من سفره، ولعله لم يكن فى شريعة سليمان بن داود من فرض القسمة بين النساء والعدل بينهن ما أخذه الله على أمة محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏لو قال‏:‏ إن شاء الله، لم يحنث‏)‏، يعنى لم يخب ولا عوقب بالحرمان حين لم يستثن مشيئة الله ويجعل الأمر له، وليس فى الحديث يمين فيحنث فيها، وإنما أراد أنه لما جعل لنفسه القوة والفضل عاقبه الله تعالى بالحرمان، فكان الحنث بمعنى التخييب‏.‏

وكذلك من نذر لله طاعة أو دخل فى شىء منها وجب عليه الوفاء بذلك؛ لقوله‏:‏ ‏(‏أوفوا بالعقود‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏، وقوله‏:‏ ‏(‏فما رعوها حق رعايتها‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 27‏]‏، فكان مطالبًا بما تألى به، فكأنه ضرب من الحنث؛ لأنه تألى فلم يف‏.‏

وقد احتج بعض الفقهاء بهذا الحديث، فقال‏:‏ إن الاستثناء بعد السكوت عن اليمين جائز، بخلاف قول مالك، واحتجوا بقوله‏:‏ ‏(‏لو قال‏:‏ إن شاء الله، لم يحنث‏)‏، وليس كما توهموه؛ لأن هذه لم تكن يمينًا، وإنما كان قولاً جعل الأمر فيه لنفسه ولم تجب عليه فيه كفارة، فسقط عنه الاستثناء، وإنما هذا الحديث مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22، 23‏]‏، أدبًا أدب الله به عباده ليردوا الأمر إليه، ويتبرءوا من الحول والقوة إلا لله تعالى، ودل هذا المعنى على صحة قول أهل السنة أن أفعال العباد من الخير والشر خلق الله، وسيأتى الكلام فى ذلك فى كتاب الاعتصام، فهو موضعه‏.‏

باب لا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلا إِذَا أَطَالَ الْغَيْبَةَ مَخَافَةَ أَنْ يُخَوِّنَهُمْ أَوْ يَلْتَمِسَ عَثَرَاتِهِمْ

- فيه‏:‏ جَابِر، كَانَ النَّبِىُّ عليه السَّلام يَكْرَهُ أَنْ يَأْتِىَ الرَّجُلُ أَهْلَهُ طُرُوقًا‏.‏

وقال جَابِر، عن النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ الْغَيْبَةَ فَلا يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلا‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قوله فى الترجمة‏:‏ مخافة أن يخونهم أو يلتمس عثراتهم، روى هذا اللفظ عن النبى، عليه السلام، من حديث ابن أبى شيبة، عن وكيع، عن سفيان، عن محارب ابن دثار، عن جابر، قال‏:‏ نهى النبى، عليه السلام، أن يطرق الرجل أهله ليلاً يتخونهم أو يطلب عثراتهم، فبين النبى، عليه السلام، بهذا اللفظ المعنى الذى من أجله نهى عن أن يطرق أهله ليلاً‏.‏

فإن قيل‏:‏ وكيف يكون طروقه أهله ليلاً سببًا لتخونهم‏؟‏ قيل‏:‏ معنى ذلك، والله أعلم، أن طروقه إياهم ليلاً هو وقت خلوة وانقطاع مراقبة الناس بعضهم بعضًا، فكان ذلك سببًا لسوء ظن أهله به، وكأنه إنما قصدهم ليلاً ليجدهم على ريبة حين توخى وقت غرتهم وغفلتهم‏.‏

ومعنى الحديث النهى عن التجسس على أهله، ولا تحمله غيرته على تهمتها إذا لم يأنس منها إلا الخير‏.‏

قال المهلب‏:‏ وهذا الحديث يقوم منه الدليل على المنع من التجسس وطلب الغرة والتعرض لما فيه الفتنة وسوء الظن‏.‏

وقوله‏:‏ طروقًا، هو مصدر فى موضع الحال، يقال‏:‏ أتانا طروقًا، أى جاء ليلاً‏.‏

باب طَلَبِ الْوَلَدِ

- فيه‏:‏ جَابِر، كُنْتُ مَعَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم فِى غَزْوَةٍ، فَلَمَّا قَفَلْنَا، تَعَجَّلْتُ عَلَى بَعِيرٍ قَطُوفٍ، فَلَحِقَنِى رَاكِبٌ مِنْ خَلْفِى، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏مَا يُعْجِلُكَ‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ إِنِّى حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَبِكْرًا تَزَوَّجْتَ أَمْ ثَيِّبًا‏)‏‏؟‏ قُلْتُ‏:‏ بَلْ ثَيِّبًا، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَهَلا جَارِيَةً تُلاعِبُهَا وَتُلاعِبُكَ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ فَلَمَّا قَدِمْنَا ذَهَبْنَا لِنَدْخُلَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَمْهِلُوا حَتَّى تَدْخُلُوا لَيْلا- أَىْ عِشَاءً- لِكَىْ تَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ، وَتَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ‏)‏‏.‏

قَالَ‏:‏ وَحَدَّثَنِى الثِّقَةُ، أَنَّهُ قَالَ فِى هَذَا الْحَدِيثِ‏:‏ ‏(‏الْكَيْسَ، الْكَيْسَ، يَا جَابِرُ‏)‏، يَعْنِى الْوَلَدَ‏.‏

وقال جَابِر مرةً عن النَّبِىّ، عَلَيْهِ السَّلام‏:‏ ‏(‏فَعَلَيْكَ بِالْكَيْسِ الْكَيْسِ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ طلب الولد مندوب إليه؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إنى مكاثر بكم الأمم‏)‏، وأنه من مات من ولده من لم يبلغ الحلم، فإن الله يدخله الجنة بفضل رحمته إياهم‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أمهلوا حتى تدخلوا ليلاً‏)‏، أى عشاء، يعارض نهيه عليه السلام أن يأتى الرجل أهله طروقًا‏.‏

قيل‏:‏ لا تعارض بينهما بحمد الله، وفى هذا الحديث أمر للمسافر إذا قدم نهارًا أن يتربص حتى يدخل إلى أهله عشاء لكى يتقدمه إلى أهله خبر قدومه، فتمتشط له الشعثة، وتتزين وتستحد له وتتنظف؛ لئلا يجدها على حالة يكرهها فتقع البغضة، رفقًا منه عليه السلام بأمته، ورغبة فى إدامة المودة بينهما وحسن العشرة‏.‏

وقوله فى الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏أمهلوا حتى تدخلوا ليلاً‏)‏، أى عشاء، يدل على قدومهم فى النهار، والحديث الآخر الذى نهى فيه عن طروق أهله ليلاً بخلاف هذا المعنى؛ لأن الطروق لا يكون وقت العشاء، وإنما يكون لمن يقدم فجأة بعدما مضى وقت من الليل، فنهى عن ذلك للعلة التى ذكرها فى الحديث، وهى خشية أن يتخونهم أو يطلب غرتهم، لاسيما إذا طالت غيبته، فإنها تبعد مراقبتها له، وتكون يائسة من تعجله إليها، فيجد الشيطان سبيلاً إلى إيقاع سوء الظن‏.‏

باب قَوُلُه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏ الآية

- فيه‏:‏ أَبُو حَازِمٍ، قَالَ‏:‏ اخْتَلَفَ النَّاسُ بِأَىِّ شَىْءٍ دُووِىَ جُرْحُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ، فَسَأَلُوا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ، وَكَانَ مِنْ آخِرِ مَنْ بَقِىَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ عليه السَّلام ‏[‏بِالْمَدِينَةِ‏]‏، فَقَالَ‏:‏ وَمَا بَقِىَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّى، كَانَتْ فَاطِمَةُ تَغْسِلُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَعَلِىٌّ يَأْتِى بِالْمَاءِ عَلَى تُرْسِهِ، فَأُخِذَ حَصِيرٌ، فَحُرِّقَ، فَحُشِىَ بِهِ جُرْحُهُ‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما أبيح للنساء أن يبدين زينتهن لمن ذكر فى هذه الآية من أجل الحرمة التى لهم من القرابة والمحرم، إلا فى العبيد، فإن الحرمة إنما هى من جهة السيادة، وأن العبد لا تتطاول عينه إلى سيدته، فهى حرمة ثابتة فى نفسه أبيح للمرأة بها من إظهار الزبينة ما أبيح لها إلى أبيها وابنها وذوى الحرمة منها مع أنه لا يظن بحرة ما انحطاط إلى عبد، هذا المعلوم من نساء العرب، والأكثر فى العرف والعادة‏.‏

وسُئل سعيد بن جبير‏:‏ هل يجوز للرجل أن يرى شعر ختنته‏؟‏ فتلا قوله‏:‏ ‏(‏ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏ الآية، فقال‏:‏ لا أراها منهن‏.‏

وقال الطبرى فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو إخوانهن أو بنى أخواتهن‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏، قال‏:‏ إخوان جمع أخ، وإخوة جمع أخ أيضًا، ما تجمع فتى فتيان وتجمع فتية أيضًا‏.‏

وسُئل عكرمة والشعبى عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا جناح عليهن فى آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 55‏]‏، قلت‏:‏ ما شأن العم والخال لم يذكرا‏؟‏ قالا‏:‏ لأنهما ينعتانها لأبنائهما، وكرها أن تضع خمارها عند عمها وخالها، ومن رأى العم والخال داخلين فى جملة الآباء جاز ذلك‏.‏

وقال النخعى‏:‏ لا بأس أن ينظر إلى شعر أمه وأخته وعمته وخالته‏.‏

وذكر إسماعيل، عن الحسن والحسين أنهما كانا لا يريان أمهات المؤمنين‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ إن رؤيتهما لهم تحل‏.‏

قال إسماعيل‏:‏ أحسب أن الحسن والحسين ذهبا فى ذلك إلى أن أبناء البعولة لم تذكر فى الآية التى فى أزواج النبى، عليه السلام، وهى قوله‏:‏ ‏(‏لا جناح عليهن فى آبائهن ‏(‏، وقال فى سورة النور‏:‏ ‏(‏ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏، فذهب ابن عباس إلى هذه الآية، وذهب الحسن والحسين إلى الآية الأخرى‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ولا نسائهن‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 55‏]‏، يعنى ولا حرج عليهن ألا يحتجبن من نساء المؤمنين‏.‏

وروى عن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، أنه كتب إلى عماله ألا يترك امرأة من أهل الذمة أن تدخل الحمام مع المسلمات، واحتج بهذه الآية‏.‏

واختلف السلف فى تأويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو ما ملكت أيمانهن‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 31‏]‏، فقال سعيد بن المسيب‏:‏ لا تغرنكم هذه الآية، إنما عنى بها الإماء ولم يعن بها العبيد‏.‏

وكان الشعبى يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته، وهو قول عطاء ومجاهد‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ لا بأس أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته، فدل أن الآية عنده على العموم فى المماليك والخدم‏.‏

وقال إسماعيل‏:‏ وهذا أعلى القولين وأكثر، وكانت عائشة وسائر أزواج النبى، عليه السلام، يدخل عليهن مماليكهن، قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ وإنما جاز للمملوك أن ينظر إلى شعر مولاته مادام مملوكًا؛ لأنه لا يجوز له أن يتزوجها مادام مملوكًا، وهو كذوى المحارم كما لا يجوز لذوى المحارم منها أن يتزوجوها ولا يدخل العبد فى المحرم الذى يجوز للمرأة أن تسافر معه؛ لأن حرمته منها لا تدوم، إذ قد يمكن أن تعتقه فى سفرها فيحل له تزويجها‏.‏

فإن قال قائل‏:‏ إن حديث أم عطية‏:‏ كنا نداوى الكلمى‏.‏

والحديث الآخر‏:‏ كن النساء ينقلن القرب على متونهن مشمرات حتى يرى خدم سوقهن فى المغازى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخالف الآية وحديث سهل‏.‏

فالجواب‏:‏ أنه إن صح أن ظهر من سوقهن غير الخدم مما لا يجوز كشفه، فالأحاديث منسوخة بسورة النور وسورة الأحزاب؛ لأنهما من آخر ما نزل بالمدينة من القرآن، وبإجماع الأمة أنه ليس يجوز للمرأة أن تظهر شيئًا من عورتها لذى رحمها، فكيف بالأجانب‏؟‏ وكذلك لا يجوز لها أن تظهر عورتها للنساء أيضًا‏.‏

باب قَوُلُه تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 58‏]‏

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، سَأَلَهُ رَجُلٌ‏:‏ هَلْ شَهِدْتَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعِيدَ أَضْحًى أَوْ فِطْرًا‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، وَلَوْلا مَكَانِى مِنْهُ مَا شَهِدْتُهُ- يَعْنِى مِنْ صِغَرِهِ- قَالَ‏:‏ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ- وَلَمْ يَذْكُرْ أَذَانًا وَلا إِقَامَةً- ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ إِلَى آذَانِهِنَّ وَحُلُوقِهِنَّ، وَيَدْفَعْنَ إِلَى بِلالٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ كان ابن عباس فى هذا الوقت ممن لم يطلع على عورات النساء، ولذلك قال‏:‏ لولا مكانى من الصغر ما شهدته، وكان بلال من البالغين، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 58‏]‏ الآية، فأجرى الذين ملكت أيمانهم مجرى الذين لم يبلغوا الحلم، وأمروا بالاستئذان فى العورات الثلاث؛ لأن الناس ينفصلون فى تلك الأوقات ولا يكونون من الستر فيها كما يكونون فى غيرها‏.‏

باب قَوُل الرَّجُل لِصَاحِبِه‏:‏ هَل أَعرستُم الليْلَة وَطَعْنِ الرَّجُلِ ابْنَتَهُ فِى الْخَاصِرَةِ عِنْدَ الْعِتَابِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، عَاتَبَنِى أَبُو بَكْرٍ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِى بِيَدِهِ فِى خَاصِرَتِى، فَلا يَمْنَعُنِى مِنَ التَّحَرُّكِ إِلا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏[‏وَرَأْسُهُ‏]‏ عَلَى فَخِذِى‏.‏

أما قوله‏:‏ باب قول الرجل لصاحبه‏:‏ هل أعرستم الليلة‏؟‏ فلم يخرج فيه هاهنا حديثًا، وأخرجه فى أول كتاب العقيقة، رواه أنس، قال‏:‏ كان ابن لأبى طلحة يشتكى، فخرج أبو طلحة فقبض الصبى، فلما رجع أبو طلحة، قال‏:‏ ما فعل بنى‏؟‏ قالت أم سليم‏:‏ هو أسكن مما كان، فقربت إليه العشاء، فتعشى ثم أصاب منها، فلما فرغ قالت‏:‏ واروا الصبى، فلما أصبح أبو طلحة أتى النبى، عليه السلام، فأخبره فقال‏:‏ ‏(‏أعرستم الليلة‏؟‏‏)‏، قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ ‏(‏اللهم بارك لهما فيه‏)‏، فولدت غلامًا سماه النبى، عليه السلام، عبد الله، وحنكه بتمرات مضغها، عليه السلام‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أن الرجل الفاضل والصديق الملطف يجوز أن يسأل صديقه عما يفعله إذا خلا مع أهله، ولا حرج عليه فى ذلك‏.‏

وفيه‏:‏ أنه من أصيب بمصيبة لم يعلم بها أنه لا ينبغى أن يهجم عليه بالتقريع بذكرها والتعظيم لها عند تعريفه بها، بل يرفق له فى القول ويعرض له بألطف التعريض؛ لئلا يحدث عليه فى نفسه ما هو أشد منها، فقد جبل الله النفوس على غاية الضعف، والناس متباينون فى الصبر عند المصائب، ولاسيما عند الصدمة الأولى‏.‏

وفى حديث عائشة أن للأب أن يعاتب ابنته بمحضر زوجها ويتناولها بيده بضرب وتهديد، وغير ذلك مباح له، فقد أخرجه فى كتاب الحدود، باب من أدب أهله أو غيرهم دون السلطان‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم

كِتَاب الطَّلاقِ

وقَوْلُ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏‏.‏

وَطَلاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ، وَيُشْهِدَ شَاهِدَيْنِ‏.‏

أَحْصَيْنَاهُ‏:‏ حَفِظْنَاهُ‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِىَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِى صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مُرْهُ، فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ، ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِى أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ أباح الله الطلاق بهذه الآية، وقول النبى، عليه السلام، فى حديث ابن عمر‏:‏ ‏(‏فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق‏)‏، وقد طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة ثم راجعها‏.‏

وقال غيره‏:‏ هكذا روى هذا الحديث عن نافع، مالك، وابن جريج، والليث، وكذلك رواه ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر، ورواه يونس بن جبير، وسعيد بن جبير، وأنس بن سيرين، وابن الزبير، وزيد بن أسلم، كلهم عن ابن عمر، وقال فيه مرة‏:‏ ‏(‏فليراجعها حتى تطهر، ثم إن شاء طلق، وإن شاء أمسك‏)‏، ولم يقولوا فيه‏:‏ ‏(‏ثم تحيض ثم تطهر‏)‏‏.‏

وأجمعوا أنه من طلق امرأته طاهرًا فى طهر لم يمسها فيه أنه مطلق للسنة والعدة التى أمر الله تعالى بها، وأن له الرجعة إذا كانت مدخولاً بها قبل أن تنقضى العدة، فإذا انقضت فهو خاطب من الخطاب‏.‏

وذهب مالك، وأبو يوسف، والشافعى، إلى ما رواه نافع، عن ابن عمر، فقالوا‏:‏ من طلق امرأته حائضًا أنه يراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء طلق قبل أن يمس، وإن شاء أمسك‏.‏

وذهب أبو حنيفة وأكثر أهل العراق إلى ما رواه يونس بن جبير، وسعيد بن جبير، عن ابن عمر فى هذا الحديث، قالوا‏:‏ يراجعها، فإذا طهرت طلقها إن شاء، وإلى هذا ذهب المزنى‏.‏

وقالوا‏:‏ إنما أمر المطلق فى الحيض بالمراجعة؛ لأن طلاقه ذلك أخطأ فيه السنة أمر بمراجعتها ليخرجها من أسباب الخطأ، ثم يتركها حتى تطهر من تلك الحيضة، ثم يطلقها إن شاء طلاقًا صوابًا، ولم يروا للحيضة الثانية بعد ذلك معنى‏.‏

وأما مالك، وأبو يوسف، والشافعى، فقالوا‏:‏ للطهر الثانى والحيضة الثانية معان صحيحة، منها أنه لما طلق فى الموضع الذى نهى عنه أمر بمراجعتها ليوقع الطلاق على سنته، ولا يطول فى العدة على امرأته، فلو أبيح له أن يطلقها إذا طهرت من تلك الحيضة كانت فى معنى المطلقة قبل البناء لا عدة عليها، ولابد لها أن تبنى على عدتها الأولى، فأراد الله على لسان نبيه أن يقطع حكم الطلاق الأول بالوطء؛ لئلا يراجعها على نية الفراق حتى يعتقد إمساكها ولو طهرًا واحدًا، فإذا وطئها فى طهر لم يتهيأ له أن يطلقها فيه؛ لأنه قد نهى أن يطلقها فى طهر قد مسها فيه حتى تحيض بعده ثم تطهر، فإذا طلقها بعد ذلك استأنفت عدتها من ذلك الوقت ولم تبن‏.‏

وقالوا‏:‏ إن الطهر الثانى جعل للإصلاح الذى قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وبعولتهن أحق بردهن فى ذلك إن أرادوا إصلاحًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏؛ لأن حق المرتجع ألا يرتجع رجعة ضرار؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تمسكوهن ضرارًا لتعتدوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 231‏]‏، قالوا‏:‏ فالطهر الأول فيه الإصلاح بالوطء ولا تعلم صحة المراجعة إلا بالوطء؛ لأنه المبتغى بالنكاح والمراجعة فى الأغلب، فكان ذلك الطهر مرادًا للوطء الذى تستيقن به المراجعة‏.‏

فإذا مسها لم يكن له سبيل إلى طلاقها فى طهر قد مسها فيه للنهى عن ذلك، ولإجماعهم على أنه لو فعل ذلك كان مطلقًا لغير العدة، فقيل له‏:‏ دعها حتى تحيض أخرى ثم تطهر، ثم تطلق إن شئت قبل أن تمس‏.‏

وقد جاء هذا المعنى منصوصًا عن ابن عمر من حديث قاسم بن أصبغ، قال‏:‏ حدثنا إبراهيم بن عبد الرحيم، قال‏:‏ حدثنا معن بن عبد الرحمن الواسطى، قال‏:‏ حدثنا عبد الحميد ابن جعفر، قال‏:‏ حدثنى نافع، عن ابن عمر، أنه طلق امرأته وهى فى دمها حائض، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها، فإذا طهرت مسها حتى إذا طهرت أخرى، فإن شاء طلقها، وإن شاء أمسكها‏.‏

قالوا‏:‏ ولو أبيح له أن يطلقها بعد الطهر من تلك الحيضة كان قد أمر أن يراجعها ليطلقها، فأشبه النكاح إلى أجل أو نكاح المتعة، فلم يجعل له ذلك حتى يطأ‏.‏

وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة‏:‏ إنما أجبر ابن عمر على الرجعة؛ لأنه طلق فى الحيضة، والحيضة لا يعتد بها، ولم يبح له التطليق فى أول طهر؛ لأن فيه تستكمل الرجعة، ففرعها له لاستكمال الرجعة بالوطء إن شاء، ثم لم يبح له بعد الوطء الطلاق؛ لأنه شرط ألا يطلقها إلا فى طهر لم يمسها فيه لتكون الحيضة التى قبل الطلاق للمبالغة فى براءة الرحم‏.‏

وقد قال به مالك فى الأمة، فاستحسن للبائع أن يستبرئها بحيضة قبل البيع، ثم لا يجتزئ بها عن حيضة المواضعة، ولابد من الإتيان بالحيضة بعد البيع كما لابد من الإتيان بثلاث حيض بعد الطلاق، فالواحدة منهن للفصل بين الثنتين، والثنتان للمبالغة فى براءة الرحم، ألا ترى أنها إن تزوجت قبل حيضة نكاحًا فاسدًا أن الولد للأول، وإن تزوجت بعد حيضة نكاحًا فاسدًا أن الولد للثانى فى رواية المصريين عن مالك، فجعلت أربع حيض واحدة قبل الطلاق للمبالغة وواحدة بعد الطلاق للفصل بين الثنتين والثالثة والرابعة للمبالغة فى براءة الرحم‏.‏

واختلف العلماء فى معنى قوله، عليه السلام‏:‏ ‏(‏مره فليراجعها‏)‏، فقال مالك‏:‏ هذا الأمر محمول على الوجوب، ومن طلق زوجته حائضًا أو نفساء، فإنه يجبر على رجعتها، فسوى دم النفاس بدم الحيض‏.‏

قال مالك وأكثر أصحابه‏:‏ يجبر على الرجعة فى الحيضة التى طلق فيها، وفى الطهر بعدها، وفى الحيضة بعد الطهر، وفى الطهر بعدها ما لم تنقض عدتها، إلا أشهب، فإنه قال‏:‏ يجبر على رجعتها فى الحيضة الأولى خاصة، فإذا طهرت منها، لم يجبر على رجعتها‏.‏

قال ابن أبى ليلى، وهو قول الكوفيين، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور‏:‏ يؤمر برجعتها ولا يجبر على ذلك، وحملوا الأمر فى ذلك على الندب ليقع الطلاق على سنة، ولم يختلفوا أنها إذا انقضت عدتها أنه لا يجبر على رجعتها، فدل على أن الأمر بمراجعتها ندب‏.‏

وحجة من قال‏:‏ يجبر على رجعتها قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مره فليراجعها‏)‏، وأمره فرض، وأجمعوا أنه إذا طلقها فى طهر قد مسها فيه أنه لا يجبر على رجعتها ولا يؤمر بذلك، وإن كان قد أوقع الطلاق على غير سنته‏.‏

واختلفوا فى صفة طلاق السنة، فقال مالك‏:‏ هو أن يطلق الرجل المرأة تطليقة واحدة فى طهر لم يمسها فيه، ثم يتركها حتى تنقضى العدة برؤية الدم من أول الحيضة الثالثة، وهو قول الليث، والأوزاعى‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ هذا حسن فى الطلاق، وله قول آخر، قال‏:‏ إذا أراد أن يطلقها ثلاثًا طلقها عند كل طهر واحدة من غير جماع، وهو قول الثورى، وأشهب صاحب مالك‏.‏

وقال‏:‏ من طلق امرأته فى طهر لم يمسها فيه طلقة واحدة، ثم إذا حاضت وطهرت طلقها أخرى، ثم إذا حاضت وطهرت طلقها ثالثة فهو مطلق للسنة، وكلا القولين عند الكوفيين طلاق سنة، قالوا‏:‏ لما كان الطلاق للسنة فى طهر لم تمس فيه، وكانت الزوجة الرجعية تلزمها ما أردفه من الطلاق فى عدتها بإجماع، كان له أن يوقع فى كل طهر لم تمس فيه طلقة؛ لأنها زوجة مطلقة فى طهر لم تمس فيه، وقد روى هذا القول عن ابن مسعود أنه طلاق للسنة‏.‏

وليس هو عند مالك وسائر أصحابه مطلقًا للسنة، وكيف يكون مطلقًا للسنة والطلقة الثانية لا يكون بعدها إلا حيضتان، والطلقة الثالثة لا يكون بعدها إلا حيضة واحدة، وهذا خلاف السنة فى العدة، ومن طلق كما قال مالك، شهد له الجميع بأنه طلق للسنة‏.‏

وقال النخعى‏:‏ بلغنا عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يستحبون ألا يزيدوا فى الطلاق على واحدة حتى تنقضى العدة‏.‏

وقال الشافعى، وأحمد، وأبو ثور‏:‏ ليس فى عدد الطلاق سنة ولا بدعة، وإنما السنة فى وقت الطلاق، فمن طلق امرأته واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا فى طهر لم يمسها فيه، فهو مطلق للسنة، وحجتهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فطلقوهن لعدتهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏، ولم يخص واحدة من اثنتين ولا ثلاثة، وكذلك أمر ابن عمر بالطلاق فى القرء الثانى، ولم يخص واحدة من غيرها‏.‏

ومن جهة النظر أن من جاز له أن يوقع واحدة جاز له أن يوقع ثلاثًا، وإنما السنة وردت فى الموضع الذى يخشى فيه الحمل أو تطول فيه العدة، فإذا كان طهر لم يمسها فيه أمن فيه الحمل وجاز أن يوقع ما شاء من الطلاق فى ذلك الموضع‏.‏

فيقال لهم‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فطلقوهن لعدتهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏، المراد منه أن لا يطلق فى الحيض، وكذلك حديث ابن عمر، وليس فى الآية والحديث ما يتضمن العدد، وكيف يوقع العدد‏؟‏ مأخوذ من دليل آخر‏.‏

ويقال للشافعى‏:‏ إن النبى صلى الله عليه وسلم لم ينكر على ابن عمر الطلاق، وإنما أنكر عليه موضع الطلاق، فعلمه كيف يوقعه ولا يكون الشافعى أعلم بهذا من عمر وابن عمر، وقد قالا جميعًا‏:‏ من طلق ثلاثًا فقد عصى ربه‏.‏

ولو كان من السنة طلاق الثلاث فى كلمة كما قال الشافعى لبطلت فائدة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏، أجمع أهل التفسير أنه يعنى به الرجعة فى العدة، قالوا‏:‏ وأى أمر يحدث بعد الثلاث، فدل أن الارتجاع لا يسوغ إلا فى المطلقة بدون الثلاث‏.‏

قال ابن القصار‏:‏ وقد روى عن عمر، وعلى، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وأبى موسى وغيرهم، إظهار النكير على من أوقع ثلاثًا فى مرة واحدة، وكان عمر يوجع من طلق امرأته ثلاثًا فى كلمة واحدة ضربًا، ويفرق بينهما‏.‏

وفى حديث ابن عمر حجة لأهل المدينة والشافعى لقولهم‏:‏ إن الأقراء الأطهار لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التى أمر الله أن تطلق لها النساء‏)‏، فأخبر أن الطلاق فى العدة لا يكون إلا فى طهر يعتد به وموضع يحتسب به من عدتها، ويستقبلها من حينئذ، وكان هذا منه، عليه السلام، بيانًا لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فطلقوهن لعدتهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏، وقد قرئت‏:‏ لقبل عدتهن، أى لاستقبال عدتهن‏.‏

ونهى عن الطلاق فى الحيض؛ لأنها لا تستقبل العدة فى تلك الحيضة عند الجميع؛ لأن من قال‏:‏ الأقراء الحيض، لا يجتزئ بتلك الحيضة من الثلاث حيض عنده حتى تستقبل حيضة بعد طهر، وكذلك لو طلق عندهم فى طهر لم يعتد إلا بالحيضة المقبلة بعد الطهر الذى طلقت فيه، فجعلوا عليها ثلاثة قروء وشيئًا آخر، وذلك خلاف الكتاب والسنة، ويلزمهم أن يقولوا‏:‏ إنها قبل الحيضة فى غير عدة، وهذا خلاف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فطلقوهن لعدتهن‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏، ولقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏فتلك العدة التى أمر الله أن تطلق لها النساء‏)‏، وسيأتى اختلاف العلماء فى هذه المسألة فى كتاب العدة وبيان أقوالهم إن شاء الله تعالى‏.‏

باب إِذَا طُلِّقَتِ الْحَائِضُ، هَل يَعْتَدُّ بِذَلِكَ الطَّلاقِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، أنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِىَ حَائِضٌ، فَذَكَرَ ذلك عُمَرُ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لِيُرَاجِعْهَا‏)‏، قُلْتُ‏:‏ تُحْتَسَبُ، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَمَهْ‏)‏‏؟‏‏.‏

وقال يُونُسَ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ تُحْتَسَبُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ، وَاسْتَحْمَقَ‏)‏‏.‏

وقال سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ‏:‏ حُسِبَتْ عَلَىَّ بِتَطْلِيقَةٍ‏.‏

الطلاق يقع فى الحيض عند جماعة العلماء، وإن كان عندهم مكروهًا غير سنة، ولا يخالف الجماعة فى ذلك إلا طائفة من أهل البدع لا يعتد بخلافها، فقالوا‏:‏ لا يقع الطلاق فى الحيض ولا فى طهر قد جامع فيه، وهذا قول أهل الظاهر، وهو شذوذ لم يعرج عليه العلماء؛ لأن ابن عمر الذى عرضت له القصة احتسب بتلك التطليقة، وأفتى بذلك‏.‏

وفى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمر بمراجعتها دليل بيِّن على أن الطلاق فى الحيض لازم واقع؛ لأن المراجعة لا تكون إلا بعد صحة الطلاق ولزومه؛ لأنه من لم يطلق لا يقال له‏:‏ راجع؛ لأنه محال أن يقال لرجل زوجته فى عصمته لم يفارقها‏:‏ راجعها، بل كان يقال له‏:‏ طلاقك لم يعمل شيئًا، ألا ترى قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وبعولتهن أحق بردهن فى ذلك‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏، يعنى فى العدة، وهذا لا يستقيم أن يقال مثله فى الزوجات غير المطلقات‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏أرأيت إن عجز واستحمق‏)‏، يعنى أرأيت إن عجز فى المراجعة التى أمر بها عن إيقاع الطلاق واستحمق، أى فقد عقله، فلم تمكن منه الرجعة، أتبقى معلقة لا ذات زوج ولا مطلقة‏؟‏ وقد نهى الله عن ترك المرأة بهذه الحال، فلابد أن يحتسب بتلك التطليقة التى أوقعها على غير وجهها، كما أنه لو عجز عن فرض آخر لله تعالى، فلم يقمه واستحمق فلم يأت به، أكان يعذر بذلك وسقط عنه‏؟‏ وهذا إنكار على من شك أنه لم يعتد بتلك التطليقة، وقد روى قتادة، عن يونس بن جبير‏:‏ قلت لابن عمر‏:‏ أجعل ذلك طلاقًا‏؟‏ قال‏:‏ إن كان ابن عمر عجز واستحمق، فما يمنعه أن يكون طلاقًا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فمه‏)‏، استفهام كأنه قال‏:‏ فما يكون إن لم يحتسب بتلك التطليقة، والعرب تبدل الهاء بالألف؛ لقرب مخرجها كقولهم‏:‏ ومهما يكن عند امرئ من خليقة والأصل ما يكون عند امرئ، فأبدل الهاء من الألف، وقد أبدلت الهاء من أخت الألف وهى الياء فى قولهم‏:‏ هذه، وإنما أرادوا هذى، كما أبدلت الياء من الهاء فى قولهم‏:‏ دهديت الحجر، والأصل‏:‏ دهدهت، وقالوا‏:‏ دهدوهة الجمل ودهدوة، وإنما اجتمعت الياء والألف والواو والهاء فى بدل بعضها من بعض لتشابههما، ولأجل تشابههما اجتمعن فى أن يكن ضمائر، وفى أن يكن وصلاً فى القوافى، وقد أبدلت الهاء من الهمزة فى قولهم‏:‏ أرقت وهرقت، وإياك وهياك، وكأرجت وهرجت‏.‏