الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **
الجزء الرابع
ولو أن مستأمناً من المسلمين في دار الحرب التحق بعسكر المسلمين ومعه مال فزعم أن أهل الحرب ملكوه ببعض الأسباب أو أنه أدخله معه من دار الإسلام فالقول قوله لأن يده ثابتة على المال وهي يد محترمة ولأن الظاهر شاهد له فإنه دخل إليهم تاجراً ليعاملهم والتاجر لا يدخل إليهم إلا مع مال في العادة. وما يصل إليه من مالهم فإنما يكون وصوله ببعض الأسباب التي تبتنى على المرضاة لأن عقد الأمان يقتضي ذلك والقول قول من يشهد له الظاهر. وإن قال: غصبته منهم فهو فيء وينبغي للأمير أن يأخذه منه فيرده إلى أهل الحرب لأنه تملكه بطريق القهر وإنما تم ذلك بقوة الجيش حين التحق بهم وشاركوه في الإحراز. ألا ترى أنه لو لم يكن مستأمناً فيهم كان ذلك المال غنيمة بينهم وبثبوت حق الجيش فيه تثبت الولاية للأمير في ذلك المال وقد حصله بسبب حرام شرعاً وهو غدر الأمان لأنه حين استأمن إليهم فقد لزمه ألا يغدر بهم وألا يأخذ شيئاً من أموالهم بغير طيبة أنفسهم. وما حصل بسبب خبيث فالسبيل رده فلهذا كان على الأمير أن يرده إليهم سواء كانوا في دار الحرب أو بعد ما خرجوا فإن أسلم بعض الرقيق باعه الأمير وبعث بالثمن إليهم أو كتب إليهم حتى يأتوه فيأخذوه لأن بالإسلام تعذر رد عينه عليهم فيجب بعه ورد ثمنه عليهم كالمستأمن إذا أسلم عبده في دارنا وهو هاهنا أو قد رجع إلى داره. وإن كانوا أحراراً قد أخذهم قهراً فأخرجهم فإن أسلموا فهم أحراراً لا سبيل عليهم لأنه ما تم قهره حين كان ممنوعاً من أخذهم شرعاً بسبب الأمان فيكون حكمهم في حقه كحكم المستأمنين في دارنا لا يملكون بالقهر فإذا أسلموا فقد تأكدت حريتهم بالإسلام. وإن لم يسلموا أو قالوا: نصير ذمة فإن كانوا أحراراً فلهم ذلك لبقاء صفة الحرية لهم بعد ما حصلوا في دارنا وإن كانوا عبيداً لأهل الحرب لم يلتفت إلى قولهم لأن الحق فيهم لمواليهم ووجوب الرد لحق المولى فحكمهم كحكم سائر الأموال ترد عليهم العين. فإن تعذر عليهم ذلك أو خيف الضيعة على شيء من ذلك فإنه يباع ويبعث إليهم بثمنه أو يوقف حتى يجيء صاحبه فيأخذه. ولو كان هذا امستأمن أخذ شيئاً مما كانوا أحرزوه من أموال المسلمين فهذا وما سبق سواء لأنهم بالإحراز قد ملكوه حتى لو أسلموا كان لهم فحكمه كحكم سائر أموالهم إلا أن الرقيق يباع هاهنا لأنهم كانوا من أهل دار الإسلام فلا يرد إليهم أعيانهم وإنما يملكونه بالقهر ولكن يباع ويبعث إليهم بالثمن. وإن كان شيئاً مما لا يملك بالقهر من رقاب المسلمين فهو مردود على حاله كما كان لأنهم بالقهر ما تملكوه حتى لو اسلموا وجب عليهم قصر اليد عنه وبه يتبين أن هذا الرجل محسن فيما صنع حيث قصر عنهم يد الظلم فعليه أن يعيدهم إلى ما كانوا عليه من قبل ولا يكون هذا من غدر الأمان في شيء. ولو كان هذا المستأمن أحرز المأخوذ منهم غصباً بدار الإسلام والمسألة بحالها فإن كان شيئاً مما لم يملكه أهل الحرب فهذا وما سبق سواء لأنه إنما يتملك عليهم بالإحراز ما كان مملوكاً لهم وما يكون محلاً للتملك بالقهر. وإن كان ذلك شيئاً مما هو مملوك لهم وكان بحيث يسلم لهم لو أسلموا فإن الإمام يفتيه بالرد عليهم ولا يجبره على ذلك في الحكم لأنه تفرد بإتمام سبب الملك فيه هاهنا وهو الإحراز بدار الإسلام فلا يثبت فيه حق المسلمين وولاية الإمام فيه تبتنى على ثبوت حق المسلمين فإذا لم يثبت لا يمكنه أن يجبره على الرد بخلاف الفصل الأول. إلا أنه حصل هذا المال بسبب حرام شرعاً فيفتيه بالرد فيما بينه وبين ربه وهذا لأنه أخفر ذمة نفسه لا ذمة المسلمين فإن أهل الحرب ما كانوا في أمان من المسلمين وإنما كانوا في أمان منه خاصة. ألا ترى أنه كان يباح لغيره من المسلمين أخذ هذا المال من أيديهم فعرفنا أنه ما أخفر أمان المسلمين حتى يثبت للإمام عليه ولاية الإجبار في الرد لمراعاة ذلك الأمان ولكنه أخفر أمان نفسه وذلك بينه وبين ربه والطريق في مثله الفتوى دون الإجبار فإن الإجبار يبتنى على الخصومة ولا خصومة لأحد معه في ذلك. ولكن لا ينبغي لأحد من المسلمين أن يشتري ذلك منه لأنه كسب خبيث وفي شرائه منه تقرير لمعنى الخبث فيه ولأنهم إذا امتنعوا من الشراء كان فيه زجر له عن العود إلو مثل هذا الصنع وحث له على الرد كما هو المستحق عليه. وإن اشترى إنسان منه ذلك جاز الشراء وإن كان مسيئاً لأنه ملك نفسه فإن فساد السبب شرعاً لا يمنع ثبوت الملك بعد تمامه والنهي عن هذا الشراء ليس لمعنى في عينه. وبعد ما جاز الشراء يؤمر فيه المشتري بمثل ما كان يؤمر به البائع من الرد على أهل الحرب لأن المعنى الموجب للرد لا يزول بهذا الشراء وهذا بخلاف المشتري شراء فاسداً إذا باعه المشتري من غيره بيعاً صحيحاً فإن المشتري الثاني لا يؤمر بالرد وإن كان البائع مأموراً بذلك لأن هناك المعنى الموجب للرد قد زال ببيعه من غيره لأن وجوب الرد لفساد البيع حكم مقصود على ملك المشتري وقد انقطع ملكه بالبيع من غيره أما هنا فوجوب الرد إنما لمراعاة ملكهم في ذلك المال ولأجل غدر الأمان وهذا المعنى قائم في ملك المشتري كما هو في ملك البائع الذي أخرجه فلهذا يفتي بالرد كما كان يفتي به البائع وهو نظير المشتري من المكره إذا باعه من غيره فإن للمكره حق الاسترداد من الثاني كما هو له ذلك قبل شرائه لأن حقه لا يتغير ببيع المشتري وثبوت حق الاسترداد كان لعدم رضاه به ولو كان هذا الرجل أمنهم وهو في دار الإسلام أو عسكر المسلمين والمسألة بحالها فإنه يؤخذ ذلك المتاع منه فيرد عليهم لأن أمانة وهو في منعة المسلمين كأمان جماعة المسلمين فهو إنما أخذ مال ? ولا يملك مال المستأمن بالقهر فكان مجبراً على رده وفي الأول هو ما أخذ مال المستأمنين لأنه كان فيهم بأمان وما كانوا مستأمنين منه إلا أن غدر ذلك الأمان كان حراماً عليه شرعاً وتمكن الخبث بهذا السبب ولكن يثبت الملك له في المال لكونه محل التملك بالقهر فلا يجبر على رده في الحكم ولأنه غدر بأمان المسلمين. ألا ترى أن حكم ذلك الأمان ثابت في حق جميع المسلمين حتى لا يحل لأحد منهم أخذ شيء من أموالهم وللإمام ولاية المنع للغادر بأمان المسلمين وإذا كان هو الذي دخل إليهم فإنما غدر بأمان نفسه خاصة. ألا ترى أنه كان لسائر المسلمين حق أخذ هذا المال من أيديهم فلهذا يفتيه بالرد ولا يجبره عليه. وإن كان الذي أخرجه هذا المستأمن إليهم متاعاً للمسلمين قد أحرزوه بدارهم فأراد صاحبه أن يأخذه منه بالقيمة لم يقض له الإمام بذلك لأن في القضاء به تقرير ملكه فإن القيمة لا تسلم إلا على وجه قيامها مقام العين وملكه غير متقرر شرعاً ما دام هو مأموراً بالرد عليهم فليس فلإمام أن يقرره بقضائه. ألا ترى أنه لو رده عليهم ثم أسلموا أو صاروا ذمة كان سالماً ولا سبيل عليه للمالك القديم بخلاف ما إذا وهبوه له لأن ملكه هناك ملك متقرر شرعاً فلهذا كان للمالك القديم أن يأخذه بالقيمة بقضاء القاضي ولأن المالك القديم بالأخذ يعيده إلى قديم ملكه وما يعطى من القيمة هو فداء يفدي به ملكه بمنزلة العبد الجاني يفديه مولاه بالدية وفي إعادته إلى ملكه إبطال حقهم عنه لا محالة وفيه تقرير ما كان منه غدر من الأمان. ولو كان هو الذي باعه من مسلم كان البيع جائزاً وإذا خوصم فيه إلى القاضي فإن القاضي ينفذ ذلك البيع لأنه ليس فيه إبطال حقهم فإن الثاني إنما يتملكه ملكاً جديداً ويؤمر من ملكه بالرد كما كان يؤمر به البائع وأما المالك القديم إنما يعيده إلى قديم ملكه وذلك سابق على ثبوت حقهم فيه فعرفنا أن في القضاء به إبطال حقهم ثم المالك القديم إن أراد أن يأخذه بالقيمة أو بالثمن من المشتري الثاني لم يقض له الإمام بذلك لأن في هذا القضاء إعادته إلى قديم ملكه كما بينا. ولو كان الذي جاء به عبداً أو أمة مسلمة لم يكن لمولاه أن يأخذه بقيته لما بينا أن حق أهل الحرب لم ينقطع عنه وما لم ينقطع حقهم عن المستولى عليه لا يثبت للمالك القديم حق الأخذ. ألا ترى أن المستولي لو دخل إلينا بأمان ومعه ذلك العبد فإنه يجبر على بيعه لإسلامه ولا يكون لمولاه القديم أن يأخذه منه بقيمة ولا ثمن. ولو كان هذا المستأمن أحرز هذا المتاع بمنعة الجيش في دار الحرب فلا سبيل لمالكه القديم على أخذه بثمن ولا قيمة لأن حقهم لم ينقطع عنه ولكن الإمام يبيع الرقيق ويقف الثمن مع سائر الأموال حتى يأتوه فيأخذوه لأن بقاء حقهم هاهنا أبين من الفصل الأول فإن الإمام هاهنا يجبر على الرد عليهم وفي الفصل الأول يفتى بذلك فإذا لم يثبت هناك للمولى القديم حق الأخذ بالقيمة ولا بالثمن فهاهنا أولى. ولو كان المسلم الخارج من دار الحرب أسيراً فيهم والمسألة بحالها فإن كان خرج إلى دار الإسلام فجميع ما أخرج سالم له لأنه ما كان مستأمناً فيهم بل كان مقهوراً وكان متمكناً من قتلهم وأخذ أموالهم لو قدر على ذلك فما أحرز من أموالهم يكون طيباً له. وإن كان شيء من ذلك مما أحرزوه من متاع المسلمين فللمالك القديم أن يأخذ منه بالقيمة إن شاء لأن حقهم انقطع بإحرازه عليهم واختص هو بملكه فيكون هو بمنزلة ما لو أصاب بسهمه في الغنيمة يأخذ مولاه بالقيمة إن شاء. وإن كان جاء به إلى عسكر المسلمين في دار الحرب فقال: وهبه لي أهل الحرب أو اشتريته منهم لم يصدق وكان ما جاء به فيئاً لأهل العسكر لأن الظاهر يكذبه فيما يقول فإنه كان مقهوراً فيهم وهم لا يعاملون الأسراء بمثل هذه المعاملة عادة فلهذا لا يصدق. ويجعل هذا بمنزلة ما لو أخرجه غصباً فيكون فيئاً لأن أهل العسكر يشاركونه في الإحراز بدار الإسلام وتمام القهر به يكون إلا ن يقيم بينة عادلة من المسلمين على ما يدعي فحينئذ الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة. ولو عايناهم وهبوا له شيئاً وخلوا سبيله لم يكن لأهل العسكر معه شركة في ذلك لأن الملك يثبت له بطريق المراضاة والشركة في المصاب بطريق القهر لأن ذلك السبب يتم بقوة الجيش فأما تمام الهبة والشراء لا يكون بقوة الجيش. ولو كان الخارج إلى العسكر أسيراً أو مستأمناً والمسألة بحالها ففيما في يد المستأمن القول قبوله فيما يدغي من الهبة والشراء إذا حلف على ذلك وفيما في يد الأسير لا يصدق هو إلا ببينة من المسلمين اعتباراً لحال اجتماعهما بحال انفراد كل واحد منهما. وإن قالا دخلنا بها معنا من دار الإسلام فالمستأمن يصدق فيما في يده مع يمينه والأسير لا يصدق سواء أقام البينة أو لم يقم البينة لأنهم أحرزوه بدارهم وأحرزوا ما معه من المال أيضاً فيملكون بهذا الإحراز ما يكون محلاً للتمليك ويلتحق هذا المال بالمال الذي كان لهم في الأصل. فإذا أحرزه الأسير بمنعة الجيش كان فيئاً إلا أن يكون ذلك شيئاً يخفى عليهم نحو درة قال الأسير: كانت في فمي أو كنت ابتلعتها فكانت في بطني فإنه في القياس لا يصدق على ذلك أيضاً لأنه مال محتمل للتمليك أيضاً وقد كان معه حين صار مقهوراً حين تم إحرازهم فيه فلا يبقى مملوكاً له كسائر الأموال ولكنه استحسن فقال: يسلم له ذلك المال إذا أثبت أنه أدخله معه من دار الإسلام. لأن إحرازهم يكون بالقهر وذلك إنما يثبت حساً لا حكماً فإن دار الحرب ليست بدار حكم ومن حيث الحس إنما يتحقق قهرهم فيما يعلمون به دون ما لا يعلمون وما كان في فمه أو بطنه فلا علم لهم بذلك وإذا لم يثبت الملك لهم فيه بطريق القهر وقد ثبت بالبينة أنه كان مملوكاً له في الأصل فهو على ذلك الملك ولا شركة للجيش معه فما كان في الأصل مملوكاً له. فإن قيل: هذا إذا ثبت ما أخبر به أنه كان في بطنه أو في فمه قلنا: هو أمين فيما يخبر به مما يكون محتملاً ولا يكذبه الظاهر فيه. ولو كان الخارج إلى العسكر رجلاً أسلم في دار الحرب فالقول قوله فيما يقول: إن أهل الحرب وهبوه لي أو أنه كان ملكاً لي في الأصل لنه أمين أخبر بخبر محتمل فيما في يده فيكون الثابت بخبره كالثابت بالمعاينة ولو عاينا ذلك كان المال سالماً له ولا شركة للجيش معه فيه. وإن قال: قد اغتصبته منهم فالمال فيء. لأهل العسكر لا يرد على أهل الحرب بخلاف المستأمن كان ممنوعاً عن الغدر بهم وأخذ شيء من المال بغير طيبة من أنفسهم فأما الذي أسلم منهم فهو غير ممنوع من ذلك لأنه باق فيهم على ما كان في الأصل وقبل الإسلام ما كان بعضهم في أمان من بعض ولكن كان لا يتعرض بعضهم لبعض لأجل الموافقة في الدين فيكون هو فيما يأخذ من أموالهم غصباً بمنزلة الأسير فإن قيل: فكان ينبغي ألا يصدق في قوله: وهبوه لي كما لا يصدق الأسير في ذلك قلنا: إنما لا يصدق الأسير لأن الظاهر يكذبه فيما يقوله باعتبار كونه مقهوراً فيهم فأما الذي أسلم منهم في أيديهم فالظاهر غير مكذب له فيما يقول لأنه ما كان مقهوراً في أيديهم وما كانوا يعلمون بإسلامه وقبل العلم بذلك ما كانوا قاصدين إلى التعريض له ولماله بل كانوا يعاملونه على الوجه الذي يعامل بعضهم بعضاً فلهذا صدقناه فيما يخبر به. ولو كان هذا الرجل خرج إلى دار الإسلام فجميع ما جاء به سالم له لأنه تقرر ملكه بإحرازه بالدار. وإن كان فيما جاء به من متاع المسلم وقد كانوا أحرزوه فإان صاحبه يأخذه بالقيمة إن شاء لأن تملكه عليهم بالقهر كتملك مسلم آخر إلا أن يكون هو المستولي على ذلك المتاع فحينئذ يكون سالماً له لقوله صلى الله عليه وسلم: " من أسلم على مال فهو له " ولأن حقه قد تقرر بإسلامه وقد بينا أن حق المولى القديم إنما يثبت إذا انقطع حق المستولي. يوضحه: الفرق بين هذا وبين الأسير أن المسلمين لو ظهروا على الدار قبل أن يخرج الأسير وهذا الذي أسلم فإن ما كان من مال الذي أسلم في يده يكون سالماً له وما كان من مال الأسير يكون غنيمة للمسلمين لأن أهل الحرب قد تملكوا ذلك بالإحراز فيكون كسائر أموالهم فإن قهروا هذا الذي أسلم فيهم واستعبدوه فحاله كحال الأسير في جميع ما ذكرنا. ولو أن قوماً من الجيش في دار الحرب خرجوا في العلاقة وجاءوا بمتاع فقالوا: اشتريناه من أهل الحرب أو وهبوه لنا لم يصدقوا وكان ذلك فيئاً لأن الظاهر يكذبهم فإنهم محاربون لأهل الحرب قصدوهم للغارة عليهم لا للمعاملة معهم فإذا أقاموا بينة عادلة من المسلمين على ما قالوا فإن شهد الشهود أن أهل الحرب فعلوا ذلك بهم وهم ممتنعون منهم فذلك سالم لهم لأنه تبين بالحجة أنهم ملكوه بسبب تم المراضاة. فإن قالوا: فعلوا ذلك وهم غير ممتنعين منهم كان ذلك فيئاً لأنهم لما صاروا غير ممتنعين منهم فقد تثبت اليد بطريق القهر عليهم وعلى ما في أيديهم وتثبت الشركة فيه لأهل العسكر فلا يتغير ذلك بالهبة منهم بعد ذلك. فإن قالوا: قد كنا آمناهم وهم ممتنعون ثم فعلوا ذلك بنا لم يصدقوا على ذلك إلا ببينة عادلة لأن دعواهم الأمان حين كانوا ممتنعين منهم وقد بينا أنهم لا يصدقون في ذلك إلا بحجة فكذلك في هذا. فإن شهد لهم بذلك قوم من أهل العسكر فردت شهادتهم لفسقهم كان ذلك فيئاً لأن الحجة ما قامت لهم فيما ادعوا. فإن وقع شيء من ذلك في سهام الذين شهدوا أخذه منهم المشهود لهم لأنهم ملكوا ما أقروا بملكه لغيرهم ومن أقر بالملك لآخر في عين ثم ملكه بعد ذلك أمر بالتسليم إليه لأن إقراره حجة عليه. ولو قالوا: هذا المتاع مما كان معنا أدخلناه من دار الإسلام حين دخلنا فإن كان ذلك مما يشكل على المسلمين ولا يدري لعلهم صادقون فيه فالقول قولهم مع إيمانهم لأن الظاهر غير مكذب لهم فيما أخبروا به فإن الغازي يستصحب طائفة من ماله في دار الحرب لحاجته إليه. وإن كان ذلك مما لا يشكل فإنه يكون ذلك من الغنيمة لأن الظاهر يكذبهم فيما أخبروا به لأن البعير وغيره مما لا يمكن إخفاؤه. ولو كان ذلك معهم قبل أن يخرجوا في العلاقة لعلم المسلمون به ومن أخبر بما يكذبه الظاهر فيه لم يكن مصدقاً فإن كان فيما جاءوا به رقيق وهم مشكلون فإنه يرجع إلى قول الرقيق فإن صدقوهم بما قالوا فالقول قولهم لأنهم في أيدي أنفسهم فلا بد من الرجوع إلى قولهم إذا زعم هؤلاء أنهم ملكهم أدخلوهم من دار الإسلام ألا ترى أنهمك لو ادعوا ذلك في دار الإسلام كان يجب الرجوع فيه إلى قول الرقيق. وإن قال الرقيق: نحن قوم أحرار من أهل الحرب قد أسرنا هؤلاء فالقول قولهم وهم فيء لجماعة المسلمين لأنهم كذبوهم في دعوى الملك عليهم. ولو كانوا ادعوا ذلك عليهم في دار الإسلام فكذبوهم وزعموا أنهم أحرار كان القول قولهم فكذلك إذا ادعوا ذلك عليهم في دار الحرب وإذا ثبت بقولهم إنهم أحرار من أهل الحرب كانوا فيئاً لجماعة المسلمين لأنهم صاروا مقهورين في أيدينا بغير أمان. وإن قالوا: كنا عبيداً لأهل الحرب فأخذنا هؤلاء فالقول قول الذين جاءوا بهم لأنهم قد أقروا بأنهم أرقاء وأنهم لا يد لهم في أنفسهم ولا قول فلا يصدقون على أن يصرفوا ملكهم إلى غيرهم بخلاف الأول وهو نظير ما لو ادعى على مجهول الحال وهو في يده أنه ملكه فقال مجهول الحال: أنا عبد لفلان فإنه لا يصدق والقول قول قول ذي اليد ولو قال: أخبروا به لو كان معلوماً في الوجهين فوقع للإمام فيهم رأي المن كانوا أحراراً في الفصل الأول وكانوا عبيداً في الفصل الثاني يردون على مواليهم فيه يتضح الفرق. وإن كان فيهم غلام لم يبلغ فإن كان ممن يعبر عن نفسه فالقول قوله كالبالغ وإن كان ممن لا يعبر عن نفسه فالقول قول الذي في يده مع يمينه بمنزلة متاع آخر وإن كان مع الصبي أحد أبويه وهو معروف بذلك فإن كان الصبي يعبر عن نفسه فالقول قوله في نفسه وإن كان ممن لا يعبر عن نفسه فالقول قول والده لأنه في يد والده وهو تابع له في الحكم ألا ترى أنه لا يحكم بإسلامه إذا سببي مع والده. وإن كان ممن يعبر عن نفسه فقال قولاً ثم رجع عن ذلك إلى قول آخر فالأمر على القول الأول لأنه في القول الثاني مناقض ولأنه إن قال أولاً: أنا حر فقد ثبت فيه حق العسكر فلا يصدق بعد ذلك في إبطال حق لهم وإن قال: أنا عبد فقد تقرر فيه ملك ذي اليد فلا يقبل قوله بعد ذلك في إبطال ملكه. ولو قال الذين جاءوا بالمتاع: قد اشترينا في دار الحرب من مسلم كان مستأمناً فيهم أو أسيراً أو كان أسلم منهم لم يصدقوا على ذلك إلا بحجة لأنهم ادعوا خلاف ما يشهد به الظاهر لأنهم ذهبوا للإغارة لا للمعاملة ولأن وجود الذين زعموا أنهم عاملوهم في ذلك الموضع غير ظاهر فلا يصدقون إلا بحجة. فإذا أقاموا بينة من المسلمين كان المتاع لهم إن زعموا أنهم اشتروا ذلك المتاع من مستأمن أو ممن أسلم منهم لأن ثبوت ذلك بالبينة كالثبوت بالمعاينة. وإن زعموا أنهم اشتروا ذلك من أسير فإن ذلك فيء لأهل العسكر لأن المشترين في إخراج هذا المتاع قاموا مقام البائع في الفصلين جميعاً. ولو كانوا قالوا: لقينا قوماً من المسلمين مستأمنين أو أسراء أو اسلموا من أهل الحرب فأودعونا هذا وأمرونا أن نخرجه إلى دار الإسلام فصدقهم الرقيق في ذلك لم يصدقوا لأن الرقيق قد أقروا برقهم فلا قول لهم بعد ذلك والذين جاءوا بهم أخبروا بما لا ظاهر يصدقهم فيه فلا يقبل قولهم إلا بحجة. فإن أقاموا بين على ذلك فما كان من وديعة أو عارية للمستأمنين أو الذين أسلموا في دار الحرب فلا سبيل لأهل العسكر عليه لأن الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولا شك أن أهل العسكر لا يثبت حقهم في ملك المستأمنين وكذلك في ملك الذين أسلم في دار الحرب لأن يد مودعه كيده فيكون إحرازه في هذا المال أسبق من إحراز المسلمين وما كان أودعهم الأسير أو أهل الحرب أو مرتدون في دار الحرب فهو فيء كله لأن يد المودع وهو بنفسه لو أحرز ذلك بمنعة الجيش كان فيئاً فكذلك إذا جاء به مودعه إلا في خصلة واحدة إن شهد الشهود أنهم آمنوه وهو ممتنع ثم أودعهم فحينئذ للمسلمين أن يتعرضوا لشيء من ذلك لأنه قد ثبت بالبينة أنه مال مستأمن وهو لو جاء بنفسه مستأمناً إلينا لم يكن لنا أن نعرض لشيء من ماله فكذلك إذا جاء به مودعه. وإن كان الأسير من المسلمين آمنه حين دفع ذلك إليهم فهو فيء لأن أمان الأسير إياه وهو مقهور في أيديهم باطل فكان وجوده كعدمه أو يجعل في الحكم كأن الأسير هو الذي جاء بنفسه فأودعهم هذا المال حتى رجع. ولو زعم الذين جاءوا بالمال أنهم غصبوه من مستأمن مسلم أو ممن أسلم من أهل دارهم أو من حربي فقامت البينة على ذلك فإن المغصوب من المستأمن مردود عليه لأن ماله ليس بغرض التملك بالقهر للمسلمين والمغصوب من الحربي فيء والمغصوب من الذي أسلم في دار الحرب في قياس أبي حنيفة - رحمه الله - يكون فيئاً لأن من أصله أن إسلامه يوجب العصمة في نفسه وماله في الآثام دون الأحكام ألا ترى أنه لو قتله قاتل لم تلزمه إلا الكفارة إذا كان خطأ ولو أتلف ماله إنسان في دار الحرب لم يضمن شيئاً وكذلك في المعاملة بالربا أو غيره يتبين هذا الحكم. وكذلك لو ظهر المسلمون على الدار فإن عقاره يكون فيئاً وما ليس في يده من المنقول ولا في يد محترمة قائمة مقام يده فهو فيء أيضاً في القضاء وإنما لا يكون فيئاً ما يكون في يده من المنقول أو في يد مسلم أو معاهد قد أودعه لأنه قد سبق إحرازه باعتبار ملك اليد فأما ما يكون في يد غاصب غصبه منه فهو فيء وإذا كان ذلك الغاصب مسلماً أو معاهداً لأن يد الغاصب لا تكون كيد المغصوب منه في حكم الإحراز فإذا كان هذا هو الحكم فيما غصبه منه مسلم أو معاهد فكذلك فيما غصبه منه الذين لقوه في دار الحرب من المسلمين إلا أن يكونوا غصبوا ذلك منه بعدما صار في منعتهم فحينئذ يكون مردوداً عليه لأنه صار محرزاً لذلك المال منعتهم فكانت يده إليه أسبق من يد غيره بمنزلة مال في يده حين ظهر المسلمون على الدار ثم أخذه منه بعض المسلمين وذلك مردود عليه فهذا مثله. وفقهه في هذا كله أن العصمة المقومة إنما يثبت بالإحراز باليد لا بالدين وتمام الإحراز باليد إنما يكون بمنعة المسلمين أو بدارهم وبدون هذه العصمة لا يخرج المال من أن يكون محلاً للأغنام أما على قول محمد - رحمه الله -: فحال الذي أسلم في دار الحرب كحال المستأمن فيهم في ظهور حكم العصمة في ماله ولهذا لا تجوز معاملة من عامل معه من المسلمين على وجه الربا وفيما يغضبه الذين خرجوا في العلاقة من المستأمنين لا يثبت حق أهل العسكر بل يجب رده عليه فكذلك فيما يغصبونه من الذي أسلم في دار الحرب وكذلك أيضاً إذا ظهر المسلمون على الدار فما في يده من المنقول أو ما غصبه من مسلم أو معاهد فهو مردود عليه إلا ما غصبه منه أهل الحرب فإن هذا يكون فيئاً لأنهم قد تملكوه عليه بالاستيلاء حتى لو أسلموا كان ذلك سالماً لهم فأما ما أودعه مسلماً أو معاهداً أو حربياً فإنه لم يملك عليه حتى لو كان أسلم في دار الحرب ثم خرج وترك أمواله فلم يعرض له أهل الحرب حتى ظهر المسلمون على الدار فللمسلم جميع ماله في قول محمد - رحمه الله - بخلاف ما إذا خرج إلينا بأمان ثم أسلم ثم ظهر المسلمون على ماله فإنه يكون فيئاً. لأنه لم يحرز ماله بإسلامه في دار الإسلام فإنه أسلم ولا ولاية له على ماله ولا يتحقق الإحراز بدون الولاية والتمكن من المال وفي الأول صار محرز المال بإسلامه لأنه كان تحت ولايته حين أسلم وكان متمكناً منه. ألا ترى أنه حين أسلم في دارنا فأولاده الصغار الذين في دار الحرب لا يحكم لهم بالإسلام تبعاً له حتى إذا ظهر المسلمون عليهم كانوا فيئاً ولكن يجبرون على الإسلام لأنهم بعدما حصلوا في دارنا لزمهم حكم الإسلام تبعاً للأب. ولو كان أسلم في دار الحرب كان أولاده الصغار مسلمين بإسلامه حتى إذا وقع الظهور عليهم كانوا أحراراً لا سبيل عليهم وبأن لم يجب الضمان على من أتلف ماله في دار الحرب فذلك لا يدل على أنه لا يكون محرزاً له بإسلامه كرقبته فإن من قتله عمداً أو خطأ لم يلزمه قصاص ولا دية ومع ذلك كان محرزاً رقبته بإسلامه حتى لا يملك بالاستيلاء عليه. وكذلك أموال أهل البغي ورقابهم لا يملكوا أهل العدل بالاستيلاء وإن كانوا لا يضمنون لو أتلفوا شيئاً من ذلك فالذي مكث في دار الحرب بعد إسلامه لا يكون أعظم جرماً من الخوارج وأهل البغي. وأيد جميع ما قلينا قوله صلى الله عليه وسلم: " أيما رجل أسلم في دار الحرب ثم خرج إلى المسلمين ثم اتبعه ماله فهو له " و المراد بماله هاهنا عبده فلو لم يكن محرزاً له بإسلامه لكان عبده حراً إذا خرج بعده كما يكون حراً. إذا خرج قبل إسلامه مسلماً مراغماً له والحرف الذي ذكرنا لأبي حنيفة - رحمه الله - يجيب عن كلام محمد - رحمه الله - فإن دفع التملك في الأموال يكون بالإحراز المقوم للمال وذلك يكون بالدار لا بالدين بخلاف النفوس فإنها في الأصل ليست بعرضة التملك وإنما تصير عرضة للتملك جزاء على الجريمة وبالإسلام تنعدم تلك الجريمة ولو كان هذا محرزاً لماله بإسلامه لكان المتلف له ضامناً بمنزلة المستأمن في دار الحرب إذا استهلك إنسان ماله ومحمد - رحمه الله - فرق بين المستأمن وبين الذي أسلم في دار الحرب في استهلاك المال كما فرق الكل بينهما في قتل النفس فإن قتل المستأمن في دار الحرب يوجب الدية في ماله عمداً قتله أو خطأ لا العاقلة لا تعقل ما كان في دار الحرب والقود لا يجب باعتبار سبب كان في دار الحرب لتمكن الشبهة فيه وهذا لأن تقوم الدم والمال يكون بالإحراز بالدار فإن الدين دافع في حق من يعتقد لا في حق من لا يعتقد ومنعة الدار دافعة في حق من يعتقد وبدخول المسلم إليهم بأمان لا يسقط سبب إحرازه نفسه وماله بالدار والذي أسلم في دار الحرب لو بوجد منه إحراز النفس والمال بالدار فباعتبار هذا المعنى يقع الفرق بينهما في حكم الضمان عند الاستهلاك وعلى هذا قال: ولو أن رجلاً من أهل العسكر أغار في دار الحرب فأخذ مالاً من مال الذي أسلم في دار الحرب ثم إن المسلم المأخوذ ماله لحق بالمسلمين فذلك مردود عليه قبل القسمة وبعد القسمة بغير شيء لأنه بمنزلة المستأمن في أن المسلمين لا يملكون ماله بالاستيلاء ويمنعون من استهلاك ذلك المال أشد المنع إلى أن يأتي صاحبه فيأخذه ولو جاء صاحبه إلى عسكر المسلمين ثم استهلك إنسان ذلك المال كان ذامناً له لأن صاحبه لما صار في منعة المسلمين فقد تقومت نفسه حتى لو قتله قاتل فإنه يغرم على الوجه الذي يغرم لو قتل غيره من أهل العسكر فكذلك يغرم ماله بالاستهلاك بخلاف ما قبل لحقوق المسلم بالعسكر فإنه لو قتله قاتل لا يغرم شيئاً فكذلك إذا استهلك لم يكن ضامناً إلا أن أبا حنيفة - رحمه الله - يقول: المال صار محرزاً بمنعة العسكر قبل خروجه فإن كان هذا الإحراز له فينبغي أن يضمن متلفه ما لو أحرز نفسه بها وإن لم يكن له فهو إحراز لأهل العسكر فينبغي أن يكون المال فيئاً لهم. والقياس ما ذهب إليه أبو حنيفة - رحمه الله - لا إلا أن محمداً - رحمه الله تعالى - استحسن القول بأن مال المسلم لا يكون فيئاً للمسلمين أبداً وأشار فقال: قد كان هو مأموراً بأداء الزكاة عن ماله بعد إسلامه إذا استجمع شرائطه ويرثه المسلمون من ورثته إذا مات فكيف يجتمع حكم الزكاة والتوريث للمسلمين من الورثة وحكم الاغتنام في مال واحد ولو أن رسولاً لإمام المسلمين دخل إليهم فأخذ متاعاً من متاعهم غصباً أو رقيقاً وأخرجه إلى عسكر المسلمين في دار الحرب أخذه الأمير ورده على أهله لأن الرسول فيهم كالمستأمن وقد بينا هذا الحكم في المستأمن إذا أحرزه بمنعة الجيش فكذلك الرسول. فإن لم يعلم الأمير بذلك حتى قسم بين الغانمين مع الغنائم ثم علم به فإنه يأخذه ويرده لأن المعنى الذي لأجله كان الرد مستحقاً فيه وهو غدر الأمان لا ينعدم بقسمته. فإن كان أعتقه الذي وقع في سهمه نظر فإن كان الذي أخرجه حراً من أحرارهم فعتقه باطل ويقال للمعتق: الحق حيث شئت لأن باعتبار غدر الأمان الذي كان منه يمنع ثبوت الملك في رقبته ألا ترى أنه لو علم بحاله قبل القسمة كان حراً آمناً يخلى سبيله حتى يعود إلى بلاده فكذلك إذا علم بعد القسمة ولو كان ذلك عبداً من عبيد المشركين فالعتق نافذ من الذي وقع في سهمه لأن الإمام ملكه بالقسمة وله هذه الولاية ألا ترى أنه لو كان عالماً بحاله كان له أن يملكه غيره بالبيع ويبعث ثمنه إلى مولاه فكذلك قبل ان يعلم بحاله إذا ملكه بالبيع أو بالقسمة غيره يكون ذلك تمليكاً صحيحاً وينفذ العتق من الملك فيه لمصادفته ملكه ثم يبعث بقيمته إلى مولاه لمراعاة أمانه. فإذا فعل ذلك وقبض مولاه القيمة لم يترك المعتق يرجع إلى دار الحرب لأن ملك المسلم قد تقرر فيه حين انتهى بالعتق وقد وصل عوضه إلى دار الحرب فارتفع به حكم غدر الأمان حسبما يرتفع برده إلى دار الحرب. فإن أبى مولاه أن يأخذ قيمته قيل للمعتق: إن شئت فأقم وإن شئت فالحق بأرض الحرب لأن رده إلى دار الحرب كان مستحقاً لأجل ذلك الأمان ولم يبطل ذلك الاستحقاق بعوض قائم مقامه إلا أنه صار حراً بإعتاق المسلم إياه كما بينا فيكون الرأي إليه في الرجوع إلى دار الحرب. ألا ترى أن قبل العتق إذا أبى مولاه أن يأخذ القيمة فإن الأمير ينقض فيه القسمة والبيع ويرده إلى دار الحرب فكذلك بعد الإعتاق يكون الرأي إليه في ذلك. ولو كان الرسول لم يحرزه بمنعة الجيش ولكنه أدخله دار الإسلام فهو له ويفتى برده إلى دار الحرب من غير أن يجبره عليه في الحكم لأنه بمنزلة المستأمن إليهم وإنما أخفر بذمته خاصة. فإن لم يرده ولكن باعه كان بيعه جائزاً مكروهاً سواء كان الذي أخرجه حراً منهم أو مملوكاً ذكراً كان أو أنثى لأنه تم إحرازه له وهو محل للتمليك فيصير مملوكاً له بخلاف ما سبق فهناك ولاية الأمير في رده إلى دار الحرب ثابتة فذلك يمنع تمام الإحراز فيه. فإن أعتقه الذي أخرجه أو الذي اشتراه منه نفذ عتقه لمصادفته ملكه وله أن يرجع إلى دار الحرب إن شاء لأن رده كان مستحقاً شرعاً ولهذا كان هو مأموراً برده قبل الإعتاق إن لم يكن مجبراً عليه في الحكم فإذا صار المعتق مالكاً أمر نفسه فله أن يرجع إلى دار الحرب. ولو كان دبره أو كاتبه أو كانت أمة فاستولدها فأرادت أن ترجع إلى دار الحرب لم يمنعها المسلمون من ذلك وإن منعها مولاها لم يحل المسلمون بينه وبين ذلك لأن ملكه قائم بعد هذه التصرفات بخلاف ما بعد الإعتاق فهناك لم يبق له عليها ملك فيكون هو ظالماً في منعها وعلى المسلمين أن يمنعوه من الظلم. وإن أرادت أن تذهب بولدها لم تترك وذلك لأن ولدها مسلم على دين أبيه. وصار حاصل هذه المسائل أن في كل موضع وصل العرض إلى المولى في دار الحرب فإنه لا يبقى للمعوض حق الرجوع إلى دار الحرب بحال وفي كل موضع لم يصل عوضه إلى دار الحرب فإنه يكون متمكناً من الرجوع إلى دار الحرب إلا أن مالكه إذا منعه ففي كل موضع هو مجبر على دره في الحكم لا يلتفت إلى منعه وفي كل موضع لا يجبر على رده في الحكم فإنه لا يعرض له فيما يحدث من المنع إبقاء لملكه فأما بعد زوال ملكه فلا حق له في المنع وهو في ذلك كغيره من الناس والله أعلم. وإذا قسم الأمير غنيمة فبقي منها شيء يسير لا يستقيم أن يقسم لكثرة الجند وقلة ذلك الشيء فإن الإمام يتصدق بذلك على المساكين ولا يجعله في بيت مال المسلمين وقد أشار قبل هذا في تعليل بعض المسائل أن يجعل ذلك في بيت المال وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع فموضوع المسألة هناك فيما إذا لم يأخذ الخمس من ذلك الشيء أصلاً حتى لم يكن داخلاً تحت القسمة وموضوع المسألة هاهنا فيما إذا أخذ الخمس من جميع الغنيمة أو لا ثم بقي شيء يسير مما هو نصيب الجند وهذا قد دخل تحت القسمة وصار حقاً للجند خاصة فإذا تعذر إيصاله إليهم كان بمنزلة اللقطة في يد الإمام فسبيله التصدق به إلا أن في اللقطة يعرفها سنة لأنه على رجاء من أن يأتي صاحبها فيتمكن من ردها عليه ولا يرجو مثل ذلك هاهنا فلا معنى لتأخير التصديق به أو الاشتغال بتعريفه فلهذا يتصدق به في الحال. ولو أن قوماً أتوا صاحب المقاسم وقالوا: إن منازلنا بعيدة ولسنا نقدر على المقام إلى أن تقسم فأعطنا حصصنا من الغنيمة على الحزر والظن وأنت في حل فأعطاهم وذهبوا ثم تبين بالقسمة أن حصة القوم كانت بأكثر مما أخذوا فإن ما تبقى من فضل نصيبهم في يد صاحب المقاسم يكون بمنزلة اللقطة فإما أن يتركها الإمام في يده أو يأخذها فيعرفها حولاً ويخبر بذلك المسلمين لعل ذلك ينتهي إلى أهلها لأن هذا الفضل معلوم أنه حق الذين غابوا ويرجى حضورهم إذا انتهى الخبر إليهم. فيكون حكمه كحكم اللقطة في التعريف ثم التصديق به بعد مضي مدة التعريف والرأي في ذلك إلى الأمير لا إلى صاحب المقاسم لأن الأمير إنما ولاه القسمة فقط وقد انتهت ولايته بإتمام القسمة فيكون هو كغيره من الناس فيما يجعله الأمير في يده من نصيب بعض الغانمين لا يتصدق به. إلا أن يأذن له الأمير في ذلك وإن تصدق به بغير إذن الأمير كان للأمير أن يضمنه ذلك لأنه وصل إلى يده من جهته فإذا باشر فيه فعلاً سوى ما أمر به كان خائناً ضماناً في حق من أعطاه ذلك بمنزلة المودع إذا أتلف المال فإنه يكون للمودع أن يضمنه قبل أن يحضر صاحبه وإن أخذ الأمير منه ذلك وتصدق به كان جائزاً. فإن حضر أصحابه بعد ذلك كان لهم أن يضمنوا الأمير مثل ذلك من ماله ولا يرجع به الأمير في بيت مال المسلمين لأن حاله في ذلك كحال الملتقط إذا تصدق باللقطة ثم جاء صاحبها فإنه يتخير بين الأجر والضمان فهذا مثله وإنما لم يرجع الأمير به في بيت المال لأن تصدقه به لم يكن على وجه الحكم وإنما كان على وجه تصدق الملتقط باللقطة ولو كان على وجه الحكم لم يتصدق به أبداً ولكن بعزله في بيت مال المسلمين وحتى يأتي صاحبه فيأخذه أو يبقى في بيت مال المسلمين أبداً فعرفنا أنه إنما تمكن من التصدق به لا على وجه الحكم وفيما يفعله يرجع لا على وجه الحكم لا يكون عاملاً للمسلمين فإذا لحقه فيه ضمان لا الأمير في بيت مالهم. فإن رأى الإمام أن يستقرضه للمساكين ويقسمه بينهم على هذا الوجه فهو جائز منه لأنه في هذا الاستقراض ناظر لأصحاب هذا المال وللمساكين وهو منصوب للنظر. فإن جاء له طالب بعد هذا رجع فيما في يده من أموال المساكين حتى يدفع ذلك إلى طالبه لأن تصرفه نفذ عن ولاية والأمير في هذا كالقاضي إذا وصلت اللقطة إلى يده فكما أن تصدقه هناك لا يكون على وجه الحكم حتى إذا صاحبه ضمنه ولم يرجع بشيء مما يضمن على أحد فكذلك حال الأمير لأن الخليفة هو الذي ولاه فهو فيما ولاه الخليفة كالقاضي بخلاف صاحب المقاسم فإن ما فعل ليس من الصدفة في شيء لأنه ما ولاه لأخذ ذلك. ولو أن جنداً عظيماً أصابوا غنائم بسيرة فأخرجوها ثم تفرقوا لقلة غنائمهم وبقي بعضهم فإن الأمير يعطي من بقي حصته ويقف حصة الباقين سنة لأنه دخل تحت الغنيمة فيكون بمنزلة اللقطة في يده والحكم فيه مثل ما بينا فيما سبق. وإن أراد أن يمضي فيه ما هو الحكم حقيقة فليضعه في بيت المال موقوفاً ويكتب عليه أمره ولمن هو وما قضيته فيكون في بيت المال أبداً إلى أن يحضر طالبه وكذلك يصنع باللقطة إذا أراد أن يصنع ما هو الحكم فيه حقيقة لأن جواز التصدق بعد التعريف باللقطة رخصة فأما العزيمة فهو الكف عن مال الغفير وحفظه عليه إلى أن يأتي هو أو وارثه فيأخذه. وإن كان شيئاً مما يخاف عليه الفساد باعه ووقف ثمنه لأن حفظه لا يتأتى إلا بهذا الطريق ثم هذا البيع يكون منه على وجه الحكم حتى إذا حضر صاحبه لم يكن له أن يضمنه قيمته بخلاف التصدق به فإن بيعه تقرير لما هو الحكم فيه وهو حفظ المالية على صاحبه بحسب الإمكان فإن التصدق به لا يكون تقريراً لحفظ المالية عليه ولكنه إيصال لثوابه إليه إن رضي به فلهذا لم يكن ذلك واقعاً منه على وجه الحكم. ولو أن رجلاً غل شيئاً من الغنائم ثم ندم فأتى به الإمام بعد القسمة وتفرق الجيش فللأمام في ذلك رأي إن شاء كذبه فيما قال وقال: أنا لا أعرف صدقك وقد التزمت وبالاً بزعمك وأنت أبصر فيما التزمه حتى توصل الحق إلى مستحقه وإن شاء أخذ ذلك منه وجعل خمسه لمنسمى الله - تعالى - لأنه وجد المال في يده وصاحب المال مصدق شرعاً فيما يخبر به من حال من في يده وباعتبار صدقه خمسه لأرباب الخمس فيصرف إليهم والباقي يكون بمنزلة اللقطة في يده إن طمع في أن يقدر على أهله فالحكم فيه ما ذكرنا وإن لم يطمع في ذلك قسمه بين المساكين إن أحب وإلا جعله موقوفاً في بيت المال وكتب عليه أمره وشأنه ولو أن صاحب الغلول لم يأت به الإمام ولكنه تاب من الغلول وهو في يده فإن لم يطمع في أن يقدر على أهله فالمستحب له أن يتصدق به وإن طمع في ذلك فالحكم فيه ما هو الحكم في اللقطة في جميع ما ذكرنا ودفعه ذلك إلى الإمام أحب إلي كما هو الحكم في القطة أيضاً وبعد ما دفعه إليه فالإمام بالخيار في تصديقه إلا أنه ينبغي له ألا يدع الخمس في يده لأنه قد أقر أن خمس ما في يده لمن سمى الله - تعالى - في كتابه وإقراره فيما في يده صحيح في حقه فينبغي له أن يأخذ الخمس منه ويصرفه إلى المصارف حتى لا يكون مضيعاً حق أرباب الخمس والله أعلم.
في أمورهم حكم الأساري بعد الأخذ قبل القسمة حكم العبيد قبل الإحراز ويعد الإحراز لأن الرق قد ثبت فيهم بالقهر وإن لم يتعين الملك فإن الرق عبارة عن الضعف وقد كان الضعف موجوداً فيهم قبل الأخذ باعتبار أنهم عرضة للتملك لكنه كان لا يظهر ذلك للقوة الموجودة من طرريق الحس باعتبار المنعة وقد زال ذلك بالأسر فثبت الرق فيهم. وإن توقف ثبوت الملك على القسمة أو البيع حتى وجد قتيل من المسلمين فشهد منهم نفر على رجل منهم أنه قتله بالسيف عمداً فإن شهادتهم لم تقبل لأن الرقيق ليس من أهل الشهادة فإنها نوع ولاية والرق يعدم الولاية. ولكن للإمام أن يقتل المشهود عليه لأنه أسير لا أمان له حتى إذا قسمه أو باعه لم يكن له أن يقتله بعد ذلك كما لو لم يشهد عليه المشهود بشيء. ولو شهدوا على امرأة منهم بذلك لم يقبلها الإمام لأنه لا شهادة لهم عليها فيكون حالها بعد هذه الشهادة كحالها قبلها وواضح هذا بما نقل عن أبي حنيفة - رضي الله عنه - أن واحداً من الجند لو أعتق منهم نصيبه من عبد أو أمة أو استولدها فإن ذلك ينفذ في القياس ولا ينفذ في الاستحسان ولو لم يثبت الرق فيهم لم يكن للقياس والاستحسان في نفوذ العتق والاستيلاد لهم معنى ولو ظهر الإمام على دار أهل الحرب فصيرها دار الإسلام فهو بالخيار بين أن يخمسها ويقسمها بين الغانمين وبين أن يمن على أهلها فيجعلهم ذمة يؤدون الجزية عن جماعتهم والخراج عن أراضيهم كما فعله - رضي الله تعالى عنه - بالسواد فإن لم يفرق له فيهم رأي حتى شهد بعضهم على رجل منهم أنه قتل امرأة منهم عمداً أو خطأ ثم فرق له فيهم أحد الرأيين فشهادتهم الأولى باطلة لأنهم شهدوا وهم بمنزلة العبيد لكونهم مقهورين. وإن عادوا تلك الشهادة فإن كان الإمام قد قسمهم لم تقبل شهادتهم أيضاً لأن الملك قد تعين فيهم بالقسمة. وإن من عليهم قبل شهادتهم الثانية لأنه قد تقرر فيهم حكم الحرية بالمن عليهم فقد جعلهم أحراراً الأصل والعبد إذا شهد في حال رقه فردت شهادته ثم أعادها بعد الحرية وجب قبولها ثم يغرم القاتل الأقل من قيمته ومن قيمة المقتولة في ماله فيكون ذلك لأوليائها على القاتل عمداً كان أو خطأ ولا قود في ذلك لبقاء شبهة الهدر في دمها حين قتلها ولاشتباه المستحق للقود حين قتلها ولاشتباه المستحق للقود حين قتلها لتردد حالها ثم حال القاتل والمقتول عند القتل كحال المكاتب فإن كل واحد منهما رقيق متردد الحال بين أن يتقرر الملك فيه بالقسمة أو الحرية بالمن فيكون كالمكاتب والمكاتب إذا قتل مكاتباً على وجه العمد لا يجب فيه القود فإنه يجب فيه الأقل من قيمة القاتل ومن قيمة المقتول ويكون ذلك في كسب القاتل لورثة المقتول إذا حكم بحريته بأداء بدل الكتابة فكذلك هاهنا وكذلك لو أن أحدهم قتل حراً من المسلمين خطأ فإن قسمهم الإمام دفع به وإن جعلهم ذمة غرم القاتل قيمته لأولياء المقتول كما هو الحكم في المكاتب يقتل حراً خطأ. وإن كان المقتول رجلاً منهم فلا شيء على قاتله لأن دمه حلال ومن أراق دماً حلالاً لم يجب عليه الضمان. ولو أسلم منهم قوم قبل أن يفرق له فيهم رأي فشهدوا بشهادة لم تجز شهادتهم على أحد لأن الرق الذي ثبت فيهم بالقهر لا يزول بالإسلام ألا ترى أن للإمام أن يقسمهم فحالهم كحال مكاتب مسلم شهد بشهادتهم وإذا رد الإمام شهادتهم ثم جعلهم في أراضيهم يؤدون عنها الخراج فذلك جائز لأنه كان له فيهم هذا الرأي قبل أن يسلموا فبعد الإسلام أولى فإن قيل: كيف يضع الخراج على أراضيهم والمسلم لا يبتدأ بالخراج. ألا ترى أنه لو قسمها بين الغانمين لم يجعل عليهم الخراج في الأراضي ولكن يجعلها أرض عشر لأن أهلها مسلمون قلنا: لأنه إذا أولى فإن قيل: كيف يضع الخراج على أراضيهم والمسلم لا يبتدأ بالخراج. ألا ترى أنه لو قسمها بين الغانمين لم يجعل عليهم الخراج في الأراضي ولكن يجعلها أرض عشر لأن أهلها مسلمون قلنا: لأنه إذا قسمها فقد ملكها الغانمين ابتداءً فكان هذا توظيفاً على المسلم ابتداءً في أرضه فأما إذا من بها على أهلها فقد قرر ملكهم فيها على ما كان وقد كان ثبت له حق توظيف الخراج على هذه الأراضي في ملك أهلها قبل أن يسلموا فيكون هذا إبقاء لما ثبت من الحق وإبقاء الخراج في أرض المسلم مستقيم. ألا ترى أنه لو وظف عليهم الخراج ثم أسلموا بعد ذلك فإنه يسقط عنهم خراج الرءوس ولا يسقط عنهم خراج الأراضي فكذلك هذا فإن أعادوا تلك الشهادة قبلها الإمام لأن حريتها قد تقررت وهو بمنزلة ما لو قسمها ثم أعتقهم الموالي فأعادوا تلك الشهادة. فإن أسلم بعضهم قبل أن يفرق له فيهم الرأي وفيمن أسلم رجل له أب مسلم من أهل دار الإسلام فمات أحدهما ولا وارث له غير صاحبه ثم رأى أن يجعلهم ذمة فإن كان الميت غير الأسير منهما لم يرثه الأسير وإن كان الميت هو الأسير منهما ورثه المسلم الآخر. لأن الأسير بمنزلة المكاتب لتردد حاله بين الرق والحرية والمكاتب لا يرث أحداً ويرثه قريبه المسلم إذا حكم بحريته بعد موته بمنزلة مكاتب يموت عن وفاء فيؤدي كتابته ويحكم بحريته. وإن كان أحد الأسراء الذين أسلموا مات ووارثه أسير في المسلمين أيضاً فرأى الإمام أن يمن عليهم فإنه يجعل مال الميت ميراثاً لوارثه المسلم لأنه تقرر حكم الحرية في الوارث والموروث باعتبار سبب واحد فهو بمنزلة مكاتب يموت وله مولود في كتابته ثم يؤدي كتابته بعد موته بخلاف ما سبق فهناك حين مات الذي هو من أهل دار الإسلام فحريته حين مات متقررة والأسير متردد في الحال فلا يمكن تورثته عنه وإن ظهرت حريته بعد ذلك. لأن حكم التوريث في ذلك المال يتقرر بنفس الموت وهاهنا الميت كان متردد الحال عند الموت كالوارث فإنما يتقرر حكم الحرية فيها وحكم الإرث في المال في وقت واحد. فإن قيل: في المكاتب الحرية تستند إلى حالة الحياة أو يجعل هو كالحي حكماً إلى وقت أداء بدل الكتابة ولا يمكن تحقق ذلك المعنى هاهنا فكيف يجري الإرث بينهما قلنا: ذلك المعنى هاهنا أظهر لأن هاهنا إذا جعلهم ذمة فقد قرر فيهم حرية كانت وهناك عند الأداء ثبتت حرية لم تكن حرية لم تكن موجودة قط في المكاتب فإذا صح أن يجعل حياً حكماً لإثبات الحرية فيه ابتداءً لحاجته إليه فلأن يصح ذلك هاهنا لتقرير حكم الحرية فيه كان أولى وكذلك إن كان له ورثة مسلمون من أهل دارنا مع هذا الأسير فالميراث بينهم بالحصص بمنزلة المكاتب يموت وله ولد حر وولد مولود في الكتابة. ولو أن مسلماً قتل رجلاً من الأسراء الذين أسلموا عمداً أو خطأ ثم جعلهم الإمام ذمة فإن القاتل يغرم قيمته إن كان عمداً ففي ماله وإن كان خطأ فعلى عاقلته لأن صفة الحل في دمه قد زالت بإسلامه وهو بمنزلة المكاتب إلا أنه لا يجب القود على القاتل لاشتباه المستحق فإن الإمام إن يجعلهم ذمة كان المستحق ورثته وإن بدا له القسمة لم يكن لورثته حق في استيفاء القود فلاشتباه المستحق لا يجب القود ولكن تجب قيمته في ماله إن كان عمداً وعلى عاقلته إن كان خطأ ويكون ذلك ميراثاً لجميع ورثته لأن بدل نفسه بمنزلة سائر أملاكه في التوريث. فإن مات بعض ورثته الذين هم من أهل دار الإسلام بعده ومات بعض ورثته من الأسراء بعده ثم جعلهم الإمام ذمة فإن ما تركه الأسير الأول يرثه ورثته من الأسراء وممن هو من أهل دارنا لأنه كان حياً عند موته وبعدما حكم بحريته يستند الإرث إلى ذلك الوقت. ولا يرث الأسير الذي مات آخر ممن هو من أهل دارنا ولا يرثه أيضاً من هو من أهل دارنا لأن من هو أهل دارنا قد مات قبله فكيف يرثه والأسير وإن كان حياً عند موته ولكنه كان متردد الحال بين الرق والحرية فلا يرث شيئاً ممن هو متيقن الحرية عند موته وهو نظير مكاتب مات عند وفاء وترك ابناً حراً أو ابناً مولوداً في الكتابة ثم مات ابنه الحر عن مال ثم مات المولود في الكتابة عن مال ثم أديت كتابته فإن بقي من كسب الأب يرثه الابنان جميعاً ولا يرث واحد من الابنين من صاحبه لما بينا. ولو أن بعض الأسراء كاتب عبداً له فإن تصرفه موقوف لأن ملكه متردد بين أن يسلم بالمن وبين أن يبطل بالقسمة فيتوقف تصرفه لتوقف ملكه فإن قيل: لماذا لم يجعل بمنزلة المكاتب في تصرفه في كسبه قلنا: لأن هناك المولى جعله أحق بكسبه وأطلق عنه الحجر في التصرف في كسبه وهاهنا الحجر بسبب القهر ثابت في كسبه كما هو ثابت في نفسه فلهذا يتوقف تصرفه في كسبه فإن جعلهم الإمام ذمة نفذ تصرفه. فإن كان المكاتب أدى إليه الكتابة ثم جعلهم ذمة فإن كانت المكاتبة في يد المولى لم يستهلكها فهو حر لأن حكم قبضه كان موقوفاً وقد نفذ ذلك بالمن. ألا ترى أن يسلم له المقبوض فيجعل ذلك بمنزلة ما لو استوفاه منه بعد المن فيحكم بعتقه. وإن كان قد استهلك المقبوض لم يعتق المكاتب إلا بأداء المال مرة أخرى لأن الكتابة إنما نفذت بعد المن ولا بد من قبض بدل الكتابة بعد نفوذ العقد حقيقة أو حكماً ولم يوجد ذلك فإن حكم التوقف لا يبقى في المقبوض بعد الاستهلاك لأنه فات لا إلى بدل فإنه غير مضمون على القابض سواء قسمهم الإمام أو جعلهم ذمة. وإن كان أعتق العبد أو دبره أو تصدق به ثم جعلهم الإمام ذمة فجميع ما صنع من ذلك باطل لأنه كان بمنزلة المكاتب أو دونه في حكم التصرف وجهة البطلان في هذه التصرفات من المكاتب متعين لأنها تعتمد حقيقة الملك وليس له بحقيقة الملك فيما في يده فكذلك من الأسير بخلاف البيع والكتابة. ولو ظهر الإمام على دارين من أهل الحرب فلم يقسمهم ولم يجعلهم ذمة حتى مات بعضهم وترك ورثة من أهل داره وورثة من أهل الدار الأخرى ثم جعلهم الإمام ذمة فيمراث الميت لورثته من أهل داره خاصة لأن أهل الدارين من أهل الحرب لا يتوارثون فيما بينهم لانقطاع الولاية بتباين المنعة فيما بينهم وهذا المعنى يبقى إلى أن يجعلهم الإمام ذمة أو يقسمهم. وإنما حالهم في هذا الوجه كحال المكاتبين هم إخوة ومكاتبتهم واحدة ولبعضهم ابن مكاتبته على حدة فمات الأب عن مال ثم أدى ابنه فعتق ثم أديت مكاتبة الميت فإن إخوته يرثونه دون ابنه لأن الابن كان مكاتباً على حدة فلا تستند ما استندت إليه حرية أبيه فكذلك ما سبق من أهل دارين مختلفين. وإن كان الإمام صيرهم ذمة قبل موت الرجل توارثوا جميعاً لأنهم جميعاً من أهل دار الإسلام. وإن صير من إحدى الدارين ذمة ثم مات رجل من أهل الدار الأخرى ثم صيرهم ذمة بعد ذلك ورث الميت جميع ما ورثته من أهل الدارين أما من كان الميت من أهل داره فغير مشكل وأما من كان من أهل الدار الأخرى فلأنهم صاروا أحراراً من أهل دارنا قبل موته فيرثونه والله أعلم.
وإذا بعث الإمام سرية من دار الإسلام إلى حصن وسرية أخرى إلى حصن آخر فدخلت السرية الأولى وظفروا بأهل حصنهم وغنموا أموالهم ثم مرت بهم السرية الأخرى وظفروا بأهل حصنهم وغنموا أموالهم ثم لم تلتق السريتان بعد ذلك حتى خرجتا إلى دار الإسلام فجميع ما غنمت السرية الأولى يشترك فيها السريتان وما غنمت السرية الثانية فهو لهم خاصة. لأن السرية الثانية حين التقت بالسرية الأولى في دار الحرب بعد إصابة الغنيمة فقد ثبت لهم في الشركة في المصاب لأنهم بمنزلة المدد لهم ثم لا تبطل تلك الشركة بإمعانهم في دار الحرب وخروج السرية الأولى قبلهم إلى دار الإسلام وما أصابت السرية الثانية فهم الذين تفردوا فيها بالإصابة والإحراز وما لقيهم السرية الأولى بعد هذه الإصابة في موضع من دار الحرب فلا يشاركونهم فيها. ولو كانوا التقوا جميعاً في دار الحرب اشتركوا في جميع الغنائم لأنهم اشتركوا في إحرازها بدار الإسلام فيجعل كأنهم اشتركوا في الإصابة في حق كل غنيمة. ولو كانت السرية الثانية لم يبعثها الإمام تقاتل الروم ولكنه بعثهم يقاتلون عدواً غير الروم وطريقهم في ارض الروم والمسألة بحالها لم يشرك بعضهم بعضاً فيما أصابوا هاهنا بخلاف ما تقدم ويستوي إن التقوا في دار الحرب أو لم يلتقوا لأن السرية الثانية هاهنا ما قصدوا قتال الروم فلا يكونون في حكم المدد للسرية المبعوثة لقتال الروم بل كل سرية في حق ما أصابت السرية الأولى بمنزلة التجار في أرض الحرب فلا يشرك بعضهم بعضاً في المصاب وإن التقوا في دار الحرب وفي المسألة الأولى قصد كل سرية قتال أهل الدار التي تقاتلها السرية الأخرى فكان بعضهم مدداً لبعض إذا التقوا في دار الحرب وهذا لأن أهل الدار الواحدة إذا قهر بعضهم بظهر أثر ذلك القهر في حق الباقين منهم وأهل الدارين المختلفين لا يصير بعضهم مقهورين بقهر البعض وربما يزدادون قوة بذلك. فإذا بعثت السريتان لقتال أهل دار واحدة يمكن جعل إحداهما مدداً للأخرى باعتبار أن قصد كل واحدة منهما قهر أهل تلك الدار وذلك لا يتأتى فيما إذا بعثت كل واحدة لقتال أهل دار أخرى فإذا التقت السريتان في دار الحرب بغنائم فلقوا جنداً من الروم فقاتلوهم عن غنائمهم فهزموا أهل الروم وأصابوا غنائم ثم خرجوا اشتركوا في جميع ذلك لأن المال صار محرزاً بقتالهم ونصرتهم جميعاً وحالهم الآن كحال التجار إذا لحقوا بالجيش في دار الحرب وقاتلوهم معهم دفعاً عن الغنائم فإن قيل: كان ينبغي ألا يكون للسرية الأولى شركة مع السرية الثانية فيما أصابوا من غير الروم لأنهم أخرجوا ذلك من الدار التي أصابوا فيها قبل أن تلحق بهم السرية الأولى فلا يشاركونهم فيها بمنزلة ما لو التحق المدد بالجيش بعد الإحراز بدار الإسلام ثم قاتلوا معهم العدو دفعاً عن تلك الغنائم قلنا: لا كذلك فإن حقهم لا يتأكد في المصاب بالإخراج إلى تلك الدار ما داموا في دار الحرب وإنما يتأكد حقهم بالإحراز بدار الإسلام وهذا لأن حكم اختلاف الدار فيما بينهم فأما في حق المسلمين الكل في حكم واحد لأن حق المسلمين إنما يتأكد إذا تم السبب وذلك بأن يصيروا قاهرين يداً وداراً وهذا المعنى لا يحصل وإن أخرجوها إلى دار حرب أخرى ما لم يحرزوها بدار الإسلام. ألا ترى أن الإمام لو بعث جنداً إلى عدو خلف الروم ثم عمى عليهم خبرهم فبعث جنداً آخر في طلبهم لنصرتهم فوجودهم في أرض الروم ومعهم الغنائم قد جاءوا بها من الموضع الذي بعثوا إليه فإنهم يشاركونهم فيها للمعنى الذي قلنا فكذلك ما سبق. ولو بعث سرية إلى أرض الروم فأصابوا فيها غنائم ثم بعث سرية أخرى إلى عدو خلف الروم فلقوا السرية الأولى وحضر الشتاء فلم يقدروا على الذهاب وكتب إليهم الإمام يأمرهم بالرجعة مع أصحابهم وبنصرتهم فخرجوا جميعاً بغنائم السرية الأولى فلا شركة للسرية الثانية معهم في ذلك لأنهم ما دخلوا لنصرتهم فكانوا كالتجار في حقهم إلا أن يلقوا قتالاً بعد انصرافهم قبل أن يخرجوا فحينئذ يشاركونهم فيها بمنزلة التجار. وهذا بخلاف ما لو كانت السرية الثانية مبعوثة إلى ناحية من الروم أيضاً لأن هناك كل واحدة م السريتين إنما بعثت لقتال الروم فكانت كل واحدة في حكم المدد للأخرى سواء علموا بمكانهم أو لم يعلموا. فإذا التقوا في دار الحرب كلنوا شركاء فيما أصابوا ولو بعث الإمام سرية فأصابوا غنائم فخلفوا معها إناساً ومضوا أياماً فأصابوا غنائم ودخلت سرية أخرى فأخذت الغنائم التي خلفوها وخرجوا إلى دار الإسلام ثم أقبل الذين أتوا بالغنائم الأخرى حتى خرجوا بها إلى دار الإسلام فإن الغنيمة الأولى تشترك فيها السريتان جميعاً لأن السرية الأولى أصابوها والثانية أحرزوها بدار الإسلام. فأما الغنيمة الأخرى فهي للذين مضوا خاصة لا شركة فيها للسرية الثانية ولا لأصحابهم الذين كانوا تخلفوا مع الغنائم الأولى لأنهم هم الذين أصابوها وأحرزوها بالدار لم يشاركهم في شيء من ذلك غيرهم. ولو بعث الإمام سرية فأصابوا غنائم ثم أسلم رجل في دار الحرب فقتل قوماً منهم وأخذ أموالهم والتحق بالسرية ثم خرجوا إلى دار الإسلام ولم يلقوا قتالاً فللسرية شركة مع الرجل فيما أصاب لأنه أحرزه بمنعتهم وشاركوه في إحراز ذلك بدار الإسلام. ولا شركة للرجل مع السرية فيما أصابوا لأنه التحق بهم على قصد النجاة من المشركين فكان حاله كحال التاجر يلتحق بالسرية بعد إصابة الغنيمة. وإن لقوا قتالاً بعدما التحق بهم الرجل اشتركوا في المصاب كله لأن الرجل قاتل عن غنائمهم فيشركهم فيها كالتاجر. وكذلك لو كان الرجل الذي التحق بهم أسيراً في دار الحرب أسر قبل ذلك بزمان لأن حاله كحال الذي أسلم منهم فإنه لا ينعقد له سبب الاستحقاق معهم وإنما قصد النجاة بالالتحاق بهم. وإن كان مأسوراً من هذه السرية والمسألة بحالها. فإنه يشاركهم فيما أصابوا وإن لم يلقوا قتالاً لأنه كان انعقد له سبب الاستحقاق معهم ثم اعترض له عارض غير قادح في ذلك السبب فإذا زال صار كأن لم يكن فإن لم يلتحق هذا الأسير بهم حتى خرجوا إلى دار الإسلام فلا شركة للسرية مع الأسير فيما أصاب لأنهم ما شاركوه في الإصابة ولا في الإحراز. ولا شركة له معهم فيما أصابوا بعد ما أسر هو لأنه شاركهم في الإصابة ولا في الإحراز. ولكنه يشاركهم فيما كانوا أصابوا قبل أن يؤسر لأنه شاركهم في الإصابة فثبت حقه فيها. ثم بالأسر لا يبطل ما كان ثابتاً في حقه وحاله في ذلك كحال السرية التي امتنعت في دار الحرب بعد إصابة الغنيمة. ولو أن سرية حاصروا أهل حصن لهم كنائس خارجة من حصنهم فأرادوا هدمها فقالوا: نفديها منكم بألف دينار فأخذوها ومضوا في أرض الروم ثم جاءت سرية أخرى فأرادوا هدم الكنائس فلا بأس بأن يخربوها وإن ثبت عندهم ما جرى بين أهل الحصن وبين السرية الأولى لنهم إنما بذلوا الدنانير ليدفعوا أهل السرية الأولى عما قصدوا من الهدم ولينصرفوا عنهم بأنفسهم وقد حصل لهم ذلك المقصود فكانت السرية الثانية في سعة من هدمها. إلا أن يصالحوهم أيضاً فإن صالحوهم على ألف دينار أخرى وأخذوها ثم اتقت السريتان في دار الحرب اشتركوا في الفداءين مع الغنائم كلها لأن المأخوذ على سبيل الفداء فيء فإنه مأخوذ منهم بطريق القهر لأن أهل الحصن ما دفعوا ذلك إلا ليزيلوا قهرهم عنهم والمأخوذ بهذا الطريق يكون غنيمة. فإن مرت السريتان بذلك الحصن فليس لهم أن يخربوا شيئاً منه ما لم يخرجوا إلى دار الإسلام وقد بينا هذا فيما سبق أن صلح كل سرية مطلقاً يتقيد بمدة بقائها في دار الحرب ف الخوف لأهل الحرب إنما كان بذلك السبب فإن خرجوا ثم رجعوا غزاة فلا بأس بتخريبها لأن حكم ذلك الصلح قد انتهى بخروجهم إلى دار الإسلام إذا حالهم في الرجعة كحال جيش آخر فلا بأس بهدم ما قدروا عليه. إلا أن يفديه العدو مرة أخرى وإن كانوا حين انصرفوا عنها داخلين في دار الحرب قد صار العدو دونها وقاتلوا المسلمين عنها ومنعوها منهم ثم قاتلهم المسلمون حتى أجلوهم عنها فلا بأس بأن يخربوها أهل السرية وغيرهم سواء في ذلك لأنهم حين قاتلوا المسلمين دفعاً عنها فقد أحرزوها من المسلمين وانتبذ ما كان لهم فيها من أمان بهذا الإحراز. وهو نظير ما لو صالحوهم في الابتداء على أن يكفوا عنهم مجانيقهم وينصرفوا عن حصنهم ففعلوا ذلك ثم رجعوا إليهم فوجدوهم قد خرجوا من الحصن وقاتلوهم حتى انهزموا ودخلوا الحصن فإنه يحل للمسلمين قتالهم وهدم حصنهم ولو أنهم بعد الخروج من الحصن لم يقاتلوا المسلمين حتى مروا بهم فإن كانوا أخذوا منهم الفداء على أن يكفوا عنهم وعن حصنهم ما داموا في حصنهم حل قتالهم أيضاً لانتهاء الصلح بخروجهم منها وإن كان وقع الفداء على أن يكفوا عنهم وعن حصنهم فليس ينبغي لهم أن يعرضوا لهم ما لم يقاتلوهم وإن كان ملكهم بعث قوماً فأنزلهم الحصن فقاتلهم أولئك الذين بعثوا وسع المسلمين قتال أهل الحصن وتخريب الحصن والكنائس لأن أولئك منهم وإنما نزلوا حصنهم لينصرهم وليزدادوا قوة بهم فكان قتالهم كقتال أهل الحصن. ولو كانت السرية مبعوثة من الجند في دار الحرب فأخذوا من أهل الحصن الفداء من كنائسهم ثم مضت وجاء العسكر فأرادوا هدم الكنائس وعلموا ما صنعت السرية فإن كان أهل العسكر عند الصلح بالقرب من الحصن على وجه لو استعانت بهم السرية قدروا على أن يعينوهم فليس لأهل العسكر أن يخربوا كنائسهم لأنهم كانوا ردءاً للسرية والردء في الحكم كالمباشر فيما يكون من أمر الحرب. ولو كانوا مع السرية حين وقع الصلح لم يكن لهم أن يهدموا الكنائس بدون رد المال كما لا يكون ذلك للسرية فكذلك إذا كانوا بالقرب منهم بخلاف ما إذا كانوا بالبعد منهم فإن حالهم الآن كحال جيش آخر جاء من أرض الإسلام ألا ترى أن السرية لو خرجت إلى دار الإسلام قبل الالتحاق بالجيش كان للجيش معهم الشركة في الدنانير المقبوضة في المسألة الأولى دون الثانية وبه يتضح الفرق. ولو أن السرية المبعوثة من دار الإسلام أصابت غنائم وخلفوها مع أجرائهم وخرجوا إلى دار الإسلام ثم دخلت سرية أخرى فلقوا الأجراء وأصابوا غنائم وخرجوا مع الأجراء إلى دار الإسلام فغنيمة السرية الأولى تشترك فيها السريتان لوجود الإصابة من إحداهما والإحراز من الأخرى ولا شركة للسرية الأولى فيما أصابت السرية الثانية لأنهم لم يشاركوهم في الإصابة ولا في الإحراز. ولو كانت السرية الأولى بعثوا الغنائم مع الأجراء إلى دار الإسلام ثم دخلت سرية أخرى فأصابت غنائم ثم التقت السريتان في دار الحرب وخرجوا فلا شركة للسرية الثانية في غنائم السرية الأولى. لأنهم ما شاركوهم في الإصابة ولا في الإحراز. ولأهل السرية الأولى الشركة في غنائم السرية الأخرى لأنهم شاركوهم في إحرازها بالدار حين التقوا في دار الحرب وخرجوا معهم. فإن لم يلتقوا فلا شركة لهم في ذلك أيضاً لأن السرية الأخيرة تفردت بالإصابة والإحراز فإن أهل السرية الأولى ما كانوا معهم عند القتال ولا بالقرب منهم بحيث لو استغاثوا بهم أغاثوهم. ولو أن السرية الأولى خلفوا غنائمهم في دار الحرب ومضوا حتى التقوا مع السرية الأخرى فأصابوا غنائم ثم خرجوا قبل أن يلقوا الذين خلفوهم مع غنائمهم الأولى لأهل السرية الأولى خاصة لأن السرية الثانية ما شاركوهم في الإصابة ولا في الإحراز والغنيمة الثانية بن الذين أحرزوها من أهل السريتين. وإن كان الذين مضوا لقوا السرية الثانية في موضع قريب من الذين خلفوا على الغنائم اشترك الكل في جميع ما أصابوا لأنه إذا كان بعضهم بحيث يتمكن من أن يغيث البعض لو استغاثوا بهم فهم بمنزلة جيش واحد بعضهم ردء للبعض وإن كانوا بالبعد منهم فهم بمنزلة عسكرين متفرقين دخلوا أرض الروم من جانبين. ولو أن السرية التي حاصرت حصناً أصابوا غنائم فيهم سبايا ثم لم يقدروا على فتح الحصن فسألهم أهل الحصن المفاداة بالمال فإنه يكره للمسلمين أن يفعلوا ذلك لأنه قد ثبت عندنا انتساخ قوله - تعالى -: فإن فعلوا جاز ذلك لأن فعلهم حصل في موضع الاجتهاد فإن الاختلاف بين العلماء في مفاداة الأسير بالمال ظاهر وقد بيناه في السير الصغير فإن دخلت سرية أخرى فالتقوا مع السرية الأولى لم يشاركوهم في فداء أولئك السبي بخلاف ما تقدم من فداء الكنائس لأن ما أخذوه عوضاً عن السبي بمنزلة الثمن فقد كانوا أثبتوا اليد على السبي ثم سلموهم إلى دار الحرب بما أخذوا منهم فيكون هذا بمنزلة الجيش أصابوا غنائم وباعوها أو قسموها في دار الحرب ثم لحقهم مدد وأما الكنائس فلم تصر محرزة لأهل الإسلام على وجه يجوز بيعهم فيها فكان ما أخذوا من الفداء في حكم مال أصابوه غنيمة ابتداء. والذي يوضح هذا الفرق أن الإمام لو باع السبي في دار الحرب من تجار المسلمين جاز بيعه ولو باع كنائسهم قبل أن تصير الأرض دار الإسلام لم يجز بيعه. ولو كانت السرية مبعوثة من العسكر في دار الحرب ثم لحقهم العسكر والمسألة بحالها فإن كان العسكر حين أخذت السرية السبي بالقرب منهم شركوهم في فداء السبي بمنزلة ما لو كانوا حضروا معهم وإن كانوا بالبعد منهم فلا شركة بينهم في ذلك إلا أن يكون أمير العسكر قد نهى أمير السرية أن يبيع شيئاً من السبي أو يفادي به فحينئذ يكون فداء السبي بينهم وبين أهل العسكر لأنه بعدما نهي عن ذلك لا يكون له ولاية البيع ففعله لا يكون بيعاً لكنه يكون رداً للسبي عليهم فكأن ردهم بغير شيء ثم أخذ منهم مالاً بطريق المعاوضة فلو كان بهذه الصفة كانوا شركاء في المال بخلاف الأول فهناك حين فوض إليه تدبير السرية مطلقاً فقد ثبت له ولاية البيع ويكون الفداء منهم مأخوذاً بطريق الثمن فلا شركة فيه لمن يلحقهم بعد ذلك إلا أن تكون شركته ثابتة في السبي قبل البيع بأن كانوا بالقرب منهم. ولو قال أهل الحصن للسرية نهب لكم ألف دينار نتصدق بها عليكم على أن تنصرفوا ففعلوا ذلك ثم لحق بهم العسكر فهم شركاؤهم في المال لأن هذا مأخوذ بطريق الفداء حين شرطوا عليهم أن ينصرفوا عنهم ألا ترى أنه لا ينبغي لهم بعدما قبضوا المال أن يعرضوا لهم إلا أن يردوا المال عليهم. وهذا بخلاف ما لو وهبوا لهم المال بغير شرط فانصرفوا عنهم لأن المال هناك مأخوذ بجهة التبرع المحض أو بسبب تعمد المراضاة بأن كانوا اشتروا من السرية شيئاً بها فلا يأخذ حكم الغنيمة. ولو باعت السرية منهم بألف دينار وشرط عليهم أهل الحصن في الشراء الانصراف عنهم فإنه يسلم للسرية من ذلك قدر قيما ما باعوا وما زاد على ذلك فهو غنيمة بينهم وبين أهل العسكر لأنهم إنما أعطوا الزيادة بإزاء ما شرطوا عليهم من الانصراف فكان ذلك غنيمة وأما مقدار القيمة فإنما أعطوه عوضاً عما أخذوا من تلك السرية فيختصون به. ولو أن السرية المبعوثة من دار الإسلام أصابت سبياً وغنائم فجعلوها في الكنيسة وقيدوا السبي فيها وأغلقوا الباب عليهم ودفنوا الأموال ثم مضوا في دار الحرب وجاءت سرية أخرى ففتحوا باب الكنيسة وأخذوا الأساري واستخرجوا الأموال وخرجوا بها إلى دار الإسلام ثم جاءت السرية الأولى فهذه الموال يشترك فيها أهل السريتين لأن إحداهما أصابت والأخرى أحرزتها بالدار. فإن لم تنته السرية الثانية إلى تلك الكنيسة حتى خرجت السرية الأولى إلى دار الإسلام من ناحية أخرى والمسألة بحالها فتلك الأموال كلها للسرية الثانية خاصة لأن أهل السرية الأولى حين تركوها في دار الحرب وخرجوا فقد سقطت يدهم عنها من كل وجه والتحقت بسائر أموال أهل الحرب مما هو ضائع ليس في يد إحداهما فإنما أصابها السرية الثانية وهم الذين أحرزوها. وكذلك لو كانوا لم يخرجوا إلى دار الإسلام ولكن علم أهل الحرب بحال تلك الكنيسة فجاءوا وأخذوا الأموال منها ثم جاءت السرية الثانية فاستنقذوها من أيديهم وأخرجوها إلى دار الإسلام قبل أن يلتقوا مع السرية الأولى فذلك كله للسرية الثانية خاصة لأن أهل الحرب بالأخذ صاروا محرزين لها فتلحق بسائر أموالهم التي لم يأخذها منهم أحد حتى الآن وقد تفردت السرية الثانية خاصة بالأخذ والإحراز منها. ولو كان بعض السرية الأولى ترك في تلك الكنيسة شيئاً من متاعه أيضاً فإن لم يأخذه أهل الحرب حتى أخذته السرية الثانية فهو مردود على صاحبه قبل القسمة وبعد القسمة بغير شيء لأنه وجد عين ماله فإن أهل الحرب ما أحرزوه ولا علموا به حتى يزول ملكه بذلك وإن كان أهل الحرب قد أخذوه ثم وجده صاحبه قبل القسمة أخذه بغير شيء وإن وجده بعد القسمة أخذه بالقيمة. لأن أهل الحرب صاروا محرزين له بنفس الأخذ لكونه في دراهم والله الموفق. فيكون أهل العسكر فيه شركاء وما لا يكون ولو أن رجلاً من أهل العسكر صار في دار الحرب وأصاب عسلاً أو لؤلؤاً أو جوهراً أو معدن ذهب أو فضة فذلك كله فيء لأنه مال تمكن من أخذه في دار الحرب بقوة الجيش والجيش حين دخلوا فقد كان قصدهم إعلاء كلمة الله - تعالى - وإعزاز الدين فكل مال يصل إلى يد بعضهم في دار الحرب باعتبار قوتهم فهو غنيمة وتحقيق ما ذكرنا أنه ما كان يتمكن من إثبات اليد على هذا المال ما لم يصل إلى هذا المكان وما وصل إلى هذا المكان إلا بقوة الجيش فكانوا ردءاً له في السبب الذي يتمكن به من أخذ هذا المال. وإن باعه قبل أن يعلم الأمير به من تاجر وأخذ ثمنه فرأى الإمام أن يجيز بيعه فإنه يأخذ الثمن فيجعله في الغنيمة لأن أهل العسكر كانوا شركاءه فيما باع قبل البيع فيكون لهم الشركة في الثمن أيضاً. ولو كان احتش حشيشاً وباعه جاز ذلك وكان طيباً له وكذلك لو كان يستقي الماء على ظهره أو دابته فيبيعه لأن الحشيش والماء مباح ليس من الغنيمة في شيء فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثبت فيهما شركة عامة بين المسلمين بقوله: " الناس شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار " فإذا لم يأخذ حكم الغنيمة بأخذه كان هو المنفرد بإحرازه فيكون مملوكاً له فإذا باعه طاب ثمنه له بخلاف ما تقدم. ولو كان قطع خشباً أو حطباً وباعه من تاجر في العسكر أخذ الأمير الثمن منه فجعله في الغنيمة لأن الحطب والخشب مال مملوك فيكون كسائر الأموال ألا ترى لو أن رجلاً أخذ من أرض رجل كلأ من بئره ماء في دار الإسلام كان ذلك له ولو باعه كان الثمن طيباً له فإذا أخذه في دار الحرب أولى أن يكون ذلك له ولو أخذ خشباً أو حطباً من شجر نابتة في أرض لم ينتبه أحد كان صاحب الأرض أحق به حتى لو باعه الآخذ لم يجز بيعه ولو استهلكه ضمن قيمته لصاحب الأرض فتبين أن الحطب بمنزلة سائر الأموال التي يتحقق فيها الإحراز بالمكان وأن الكلأ والماء لا يتأتى ذلك فيهما وإنما يكون الإحراز فيهما باليد خاصة. ولو كان باع الحطب من جندي للوقود أمر برد الثمن على المشتري لأن ما باع كان من الغنيمة والبائع والمشتري في الانتفاع به على السواء فلهذا يلزمه رد الثمن عليه بخلاف ما إذا باعه من تاجر. وكذلك لو كان المبيع طعاماً من الحنطة والعسل أو علف الدواب من الشعير والقت والتبن فإن هذا كله من الغنيمة ولكل واحد من الغانمين حق الانتفاع به وبهذا تبين أن القت من جملة الأشجار لا من الحشيش حتى لو أخذه من أرض غيره فلصاحب الأرض أن يسترده منه قال - رضي الله تعالىعنه -: وكان شيخنا الإمام شمس الأئمة - رحمه الله - يفتي بأنه بمنزلة الحشيش فإنه تافه لا قيمة له قبل الأخذ في أكثر المواضع ولكن ما ذكره محمد - رحمه اله - اصح فإن الحشيش ما ينبت على وجه الأرض ولا يقوم على ساق والشجر ما يقوم على ساق القت من جنس ما ينبت على ساق. وقيل في تأويل قوله - تعالى -: ولو ظفر أهل العسكر بحشيش للمشركين قد احتشوه وأحرزوه فأخذ ذلك رجل وباعه واستهلكه المشتري فإن كان المشتري تاجراً كان الثمن في الغنيمة وإن كان من أهل العسكر كان الثمن مردوداً عليه لأن امشركين كانوا أحرزوه هذا وملكوه فإذا ظفر به العسكر فأخذوه كان في حكم الغنيمة بخلاف ما سبق مما لم يحرزه أحد حتى أخذه هذا البائع وأحرزه. ولو كان في الجند تاجر وجد في دار الحرب من هذا الخشب الخلنج فعمل منه قصاعاً وأخونة ثم أخرجها إلى دار الإسلام فإن الإمام يأخذ ذلك ويبيعه وينظر إلى قيمة الخشب غير معمول وإلى قيمته معمولاً فيقسم الثمن على ذلك ويعطيه حصة عمله ويجعل الباقي في الغنيمة لأن الخشب الذي أخذه قبل العمل كان مالاً متقوماً فكان من جملة الغنيمة ثم هذه الصنعة فيها منه استهلاك من وجه ولهذا لو فعله الغاصب بالمغصوب كان متملكاً له بالضمان إلا أن هاهنا لا يمكن أن يجعل الغاصب ضامناً لأن استهلاك الغنائم في دار الحرب لا يوجب عليه الضمان وإذا لم يكن ضامناً لا يملك أصل الخشب ثم الصنعة التي اتصلت به حقه من الغنيمة في شيء وأصل الخشب غنيمة ولا يمكن تميز أحدهما عن الآخر بالقسمة فيصار فيه إلى البيع وقسمة الثمن بمنزلة ما لو هبت الريح على ثوب إنسان وألقته في صبغ غيره فانصبغ ثم أبى صاحب الثوب أن يغرم لصاحب الصبغ قيمة صبغه وعلى هذا لو أخذ جلود الغنم التي كانت تذبح فجعلها فرواً أو اصطاد سمكاً وملحه لأن المعنى الذي قلنا يجمع الفصول كلها. ولو كان الذي عمل ذلك عملاً بعد إخراج الغنائم إلى دار الإسلام والمسألة بحالها فهو ضامن قيمة الخشب وكان المعمول له لأن بعد الإحراز هو ضامن لما يستهلك من المال فيتملك محل العمل بالضمان قبل العمل ثم إنما اتخذ المعمول من ملك نفسه. وعلى هذا لو قسمت الغنائم في دار الحرب ثم أخذ الخشب ممن وقع في سهمه وعمل ذلك منه لأنه صار غاصباً ضامناً وبالعمل صار مستهلكاً له من وجه فيقرر عليه ضمان قيمته لصاحبه وأوضح هذا الفرق بما لو أخذ جلوداً ذكية لرجل فدبغها وجعلها فرواً كان الفرو له وغرم قيمة الجلود لصاحبها لأن المغصوب مال مضمون قبل العمل. ولو أخذ جلوداً ميتة فدبغها وجعلها فرواً قوم الفرو وجلداً غير معمول وقوم معمولاً فإن شاء العامل أعطاه جلده ذكياً غير معمول وإن شاء بيع الفرو وقسم ثمنه على قيمة الجلد ذكياً غير معمول وعلى قيمته فرواً معمولاً لأن الغاصب لم يكن ضامناً للجلد هاهنا فإنه ما كان متقوماً قبل الدبغ ولو كان دبغ الجلد دباغاً لا يزيد فيه شيئاً أخذه صاحبه بغير شيء وإن دبغه بما له قيمة ولكن لم يتغير عن حاله فلصاحب الجلد أن يأخذه ويعطيه ما زاد الدبغ فيه وليس له أن يضمنه قيمة جلده لأنه لو استهلكه قبل الدبغ لم يكن ضامناً. فكذلك حكم الغنائم قبل الإحراز إذا صنع منها شيئاً ألا ترى أن واحداً من العسكر في أرض الترك لو أصاب دواب من هذه السمور موتى فسلخها ثم دبغها وجعل منها فرواً يساوي ألف دينار ثم أخرجه إلى دار الإسلام لم يكن له ذلك لأنه ما تمكن منه إلا بقوة الجيش فلا يسلم له ولكنه يباع على ما ذكرنا. وكذلك لو أصاب معدن نحاس أو رصاص فجعل منه أباريق وكذلك لو كان معدن ذهب أو فضة فاتخذ مما استخرج من الأباريق في قول محمد - رحمه الله - فأما في قياس قول أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه -: يؤخذ من أباريق الذهب والفضة فيرد في الغنيمة ولا شيء له بسبب صنعته بناء على مذهبه أنه لا يعتبر الصنعة في الذهب والفضة ولا تصير العين بها في حكم المستهلك كما قال فيمن غصب نقرة واتخذ منها قلباً وقد بينا في شرح المختصر والله الموفق.
|