الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **
قد بينا فيما تقدم أنهم يملكون أموالنا بطريق القهر بعدما يتم الإحراز بدارهم فإذا ظهر عليه المسلمون فهو غنيمة لهم بمنزلة سائر أموالهم إلا أن المستولي عليه إذا وجده قبل القسمة أخذه بغير شيء وإن وجده بعد القسمة أخذه بالقيمة إن شاء لأنه صار مظلوماً فكان على المسلمين القيام بنصرته ودفع الظلم عنه فإنهم لا يتمكنون من السكنى في دار الإسلام إلا بأن يدفع بعضهم عن بعض فكان دفع هذا الظلم على الغزاة الذين يذبون عن دار الإسلام ويأخذون الكفاية على ذلك فإذا وقع المال في أيديهم فنقول: قبل القسمة الحق لعامتهم ودفع الظلم واجب عليهم أيضاً وذلك في رد المال عليه فيجب رده مجاناً وأما بعد القسمة فقد تعين الملك فيه لمن وقع في سهمه وما كان يجب عليه دفع الظلم عنه بتسليم ملك نفسه إليه إلا أن حق الذي وقع في سهمه كان في المالية حتى كان للإمام أن يبيع الغنائم ويقسم الثمن بينهم وحق المأسور منه كان في العين فيجب مراعاة الحقين وذلك بإيصال عين الملك إليه إذا وصل إلى من وقع في سهمه ما هو حقه وهو المالية إن شاء ولأن قبل القسمة الثابت للغانمين حق لا ملك والثابت للمستولي عليه حق أيضاً فيترجح حقه بالسبق فيأخذه مجاناً وبعد القسمة الثابت لمن وقع في سهمه ملك وللمستولي عليه حق والحق وإن كان سابقاً فإنه لا يعارض الملك المستقر شرعاً فيجب مراعاتها وذلك في أن يأخذه بالقيمة إن شاء. وكذلك لو دخل مسلم إليهم فاشتراه بثمن وأخرجه إلى دار الإسلام فلصاحبه أن يأخذه بالثمن إن شاء ولو وهبوه منه ولصاحبه أن يأخذه منه بقيمته إن شاء للمعنيين اللذين ذكرناهما واستدل على ذلك بأحاديث رواها في الكتاب منها حديث تميم بن طرفة قال: أخذ المشركون ناقة لمسلم فابتاعها منهم مسلم فارتفعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: أعطه ثمنها الذي ابتاعها به وإلا فخل بينها وبينه. ثم ذكر قول زيد بن ثابت وسعيد بن المسيب. إن المأسور منه إذا وجده بعد القسمة فلا سبيل له عليه والمراد به أنه لا سبيل له عليه في الأخذ مجاناً ولكن إذا أعطاه قيمته فهو أحق به وذكر عن الحسن والزهري رحمة الله عليهما: إنه لا يرد على صاحبه قبل القسمة ولا بعدها ولا يؤخذ بهذا لأنه خلاف ما اتفق عليه الكبار من الصحابة رضي الله تعالى عنهم وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: يرد على صاحبه قسم أو لم يقسم إذا قامت به البينة وبه نأخذ فإنه ما لم يثبت حق المستولي عليه بالحجة لا يتمكن من أخذه وطريق ثبوت حقه إقامة البينة وبعد ما يثبت حقه فإنه يأخذه قبل القسمة مجاناً وبعدها بالقيمة إن أحب فكان مراد الصديق رضي الله تعالى عنه أنه أحق به إذا رغب في أداء القيمة بعد القسمة. وأهل الذمة في هذا الحكم كالمسلمين لأن نفوسهم وأموالهم معصومة متقومة بالإحراز بالدار ولهذا لا يسترقون إذا وقع الظهور عليهم كالإحراز من المسلمين فالحكم في أموالهم إذا وقع الاستيلاء عليها كالحكم في أموال المسلمين. وذكر عن مكحول في رجل من العدو قال للجيش من المسلمين: أرأيتم إن أنا جئتكم بمسلم أتعطونني فداءه فقالوا: نعم فصالحهم على شيء معلوم ثم جاء به فمات الحربي في العسكر فقال: يدفع فداء ذلك المسلم إلى أولياء الكافر وهذا لأنهم خلفاؤه فكما أن في حال حياته كان علينا أن نفي له بما شرطنا فنعطيه الفداء فكذلك بعد موته يدفع من التزم ذلك بالشرط إلى ورثته وذكر عن إبراهيم في المسلم يشتري من أهل الحرب الحر المسلم قال: ثمنه يكون ديناً على الحر له وإنما أراد به إذا اشتراه بأمره لأن الحر لا يسترق فلم يكن هذا العقد شراء في الحقيقة وإنما كان قد فدى به المسلم. فإن كان بغير أمره فهو متطوع فيما أدى وإن كان بأمره فهو دين له عليه لأنه كالمستقرض منه حين أمره بأن يؤدي فداءه. ألا ترى أنه لو أمره بأن يقضي عنه ديناً كان له أن يرجع به عليه ولو قضى الدين بغير أمره لم يرجع به عليه والمدين كالمأسور لصاحب الدين فإذا ثبت هذا الحكم فيما هو مشبه بالأسر ففي حقيقته أولى. فأما العبد أو الأمة إذا أبق إليهم فأخذوه ثم ظهر المسلمون عليه فهو مردود على صاحبه قبل القسمة بغير شيء وبعد القسمة في قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه بخلاف الفرس إذا عاد إليهم وعند أبي يوسف ومحمد رحمة الله تعالى عليهما يقال: الجواب فيهما سواء يأخذه صاحبه قبل القسمة بغير شيء وبعد القسمة بالقيمة وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يفرق فيقول: الآبق لا يكون محرزاً أبداً لثبوت يد محترمة له على نفسه بخلاف الدابة وهي مسألة معروفة واستدل عليه بحديث عمر رضي الله تعالى عنه. أنه كتب إلى أبي عبيدة في جواب هذه المسألة إن كانت الأمة خمست وقسمت فسبيلها وإن كانت لم تخمس ولم تقسم فارددها على أهلها وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يقول: تأويله أنها أبقت فلم تدخل دار الحرب حتى خرجوا إليها فأحرزوها وذكر: إن غلاماً لابن عمر رضي الله تعالى عنهما أبق يوم اليرموك إلى العدو وعاد فرس له فظهر المسلمون على ذلك فرده عليه خالد قبل أن يقسم وهما يقولان: بهذا التقييد يتبين أن بعد القسمة لا يرد عليه مجاناً. ألا ترى أنه سوى بين العبد والدابة وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه يقول: في العبد قد ثبت بالدليل أنهم لا يكونون محرزين له فعرفنا به أنه كان يرده عليه لو جاء بعد القسمة أيضاً مجاناً والله الموفق. أو بأكثر من وزنه وإذا ظهر المسلمون على إبريق ذهب أو فضة لمسلم قيمته أكثر من وزنه لصياغته ثم وقع في الغنيمة فإن وجده صاحبه قبل القسمة أخذه بغير شيء وإن وجده بعد القسمة أخذه بقيمته إن شاء فإن كان ذهباً أخذه بقيمته دراهم وإن كان فضة أخذها بقيمتها دنانير للأصل المعروف أنه لا قيمة للجودة والصنعة في الأموال الربوية عند المقابلة بجنسها على ما قال عليه الصلاة والسلام: جيدها ورديها سواء. وحق من وقع في سهمه مرعي في الصنعة كما هو في الأصل فلو اشتغلنا بالتقويم بجنس الإبريق لا يمكن تقويم الصنعة أصلاً فيفوت حقه فيه مجاناً وذلك لا وجه له فقلنا تقوم بخلاف الجنس لتظهر قيمة الصنعة فيتوفر عليه تمام المالية بمنزلة ما لو كسر قلباً لإنسان أو استهلكه فإنه يضمن قيمته من خلاف جنسه لهذا المعنى فإن قضى القاضي له بالقيمة أو اصطلحا عليه بغير قضاء ولم يتقابضا حتى افترقا فذلك جائز لا ينقضه افتراقهما لأن ما يعطيه من القيمة ليس ببدل عن عين الإبريق ألا ترى أن المستولي عليه يعيد الإبريق إلى قديم ملكه حتى لو كان مشترياً فوجد به عيباً رده بالعيب على بائعه ولو أراد بيعه مرابحة باعه على الثمن الأول دون ما أخذه به ولو كان موهوباً في يده كان للواهب أن يرجع فيه ولو كان عبداً في عنقه جناية خوطب بالدفع أو الفداء. فعرفنا أنه لم يتملكه على من وقع في سهمه ابتداء ولكنه يعيده إلى قديم ملكه بما يفديه به فلا يتحقق معنى المصارفة بينهما حتى يشترط القبض في المجلس وهو نظير ما قال علماؤنا رحمهم الله تعالى فيمن استهلك إبريقاً على رجل فقضي عليه بقيمته من خلاف جنسه ثم افترقا قبل القبض أنه لا يبلط القضاء بل أولى لأنه هناك الغاصب المستهلك يتملك لكن ذلك ملك ثبت شرطاً للقضاء بالقيمة لا على سبيل المقابلة بها فإذا لم يتحقق هناك معنى المصارفة بينهما فلأن لا يتحقق ها هنا وهو لا يتملكه على من وقع في سهمه أصلاً وإنما يعيده إلى قديم ملكه كان أولى. وكذلك ول وهبوا الإبريق لمسلم فأخرجه أو اشتراه منهم بخمر فأخرجه لأن هذا الشراء لم يكن صحيحاً معتبراً وإنما كان أخذ الإبريق منهم بطيب أنفسهم فإذا أخرجه كان لصاحبه أن يأخذه بقيمته إن شاء كما في الفصل الأول ولو كان المشتري منهم الإبريق بالخمر نصرانياً أو مسلماً اشتراه بثوب وأخرجه فلصاحبه المسلم أن يأخذه بقيمة الخمر من النصراني وبقيمة الثوب من المسلم لأن هذا الشراء كان صحيحاً فإنه يتمكن من أخذه بمثل ما أعطاه المشتري والثوب ليس من ذوات الأمثال فيكون مثل القيمة والمسلم ممنوع من تمليك الخمر فلعجزه عن تسليم المثل يلزمه القيمة ولا بأس بأن يقوم الثوب والخمر بما هو من جنس الإبريق فيأخذه به سواء كان ذلك مثل وزن الإبريق أو أقل أو أكثر لما بينا أنه ليس يتملكه بما يؤدي ابتداء ولكن يعيده إلى قديم ملكه بما يعطي من الفداء بمنزلة العبد الجاني يفديه من الأرش فيبقى على ملكه كما كان لا أن يتملكه بما يؤدي من الفداء وإن كانت سلامته تتعلق بذلك وإذا لم توجد المبادلة أصلاً لا يتمكن فيه معنى الربا وكذلك لو كان الإبريق اشتراه رجل مسلم أو نصراني في دار الحرب بأكثر من وزنه من جنسه ثم أخرجه فلصاحبه أن يأخذه بمثل ما أدى وإن كان أضعاف وزنه لأنه فداء وليس بشراء ثم قد علم أن الربا لا يجري بين المسلم والحربي في دار الحرب فما لم يرد عليه مثل ما غرم فيه لا يكون له أن يأخذه فإن قيل: لماذا لم يقولوا بهذا فيما إذا اشتراه مسلم بخمر فأخرجه قلنا: لأن الخمر لا يتقوم في حق المسلم فلا يمكنه أن يأخذه منه بقيمة ما أدى من الخمر فلهذا أخذه بقيمة الإبريق بخلاف ما إذا كان المشتري نصرانياً فإن الخمر مال متقوم في حقه فأما ما أعطي من الدراهم ها هنا ما لم متقوم في حق كل واحد منهما قال: وهذا بخلاف الشفعة وإنما عني به إذا اشترى داراً بعبد وفي الدار صفائح من فضة أو سلاسل من ذهبن فأراد الشفيع أن يأخذها بالقيمة فإنه يثبت هناك بين الشفيع والمشتري حكم الربا وحكم الصرف في حصة الصفائح على ما بيناه في الزيادات. وهذا لأن الشفيع يتملك الدار ابتداء بما يؤدي من قيمة العبد فيكون ذلك شراء مبتدأ وهذا إنما هو فداء يفدي به صاحب الإبريق ملكه الأول. ألا ترى أن المستولي عليه يأخذ من غير أن ينقض شيئاً من العقود حتى لو باعه المشتري من غيره لم يكن له أن ينقض ذلك العقد بخلاف الشفيع فإنه يتمكن من نقض تصرفات المشتري. وكذلك لو كان المأسور عبداً ففقأ الذي أخرجه عينيه كان لمالكه أن يأخذه بجميع الثمن إن شاء ولو هدم المشتري بناء الدار التي فيها الشفعة فإن للشفيع أن يأخذ ما بقي بحصته من الثمن وكذلك حكم المرابحة في جميع ما ذكرنا فهو دليل على أن ما يعطي الشفيع يكون ثمناً وما يعطي المالك القديم يكون فداء فإن قيل: فلماذا قلتم في مسألة أول الباب أنه يصار إلى التقويم بخلاف الجنس إذا كان هذا فداء ولا يتمكن فيه معنى المعاوضة قلنا: لما بينا أنه لا يظهر مالية الصنعة عند التقويم بالجنس إذ لا قيمة له فللحاجة إلى إظهار مالية الصنعة صرنا إلى التقويم بخلاف الجنس لا لأن ذلك مبادلة فأما في تقويم الثوب والخمر إذا كان المشتري نصرانياً لا حاجة إلى ذلك فلهذا جوزنا تقويمه بجنس الإبريق. ولو أسر العدو عبداً لذمي فدخل إليهم ذمي فاشتراه بأرطال من خمر وأخرجه لصاحبه أن يأخذه بمثلها لأن الخمر من ذوات الأمثال وهو مال متقوم في حقهم كالعصير والخل في حقنا. فإن قضى القاضي له بذلك فلم يأخذه حتى أسلم أحدهما لم ينتقض القضاء وكان على صاحبه قيمة الخمر يأخذه منه لما بينا أن هذا فداء فلا يبطل بالإسلام قبل القبض. بخلاف شراء العبد بالخمر ابتداء وأخذ الدار بالشفعة بالخمر. وإذا لم يبطل القضاء فعليه قيمة الخمر لأن السبب الموجب لتسليمه باق وقد عجز عن تسليم العين فإن كان هو المسلم فالمسلم ممنوع من تمليك الخمر وإن كان صاحبه هو المسلم فهو ممنوع عن تملك الخمر فلهذا يلزمه القيمة في الوجهين. ولو قضى القاضي لصاحب العبد أن يأخذه بالثمن من المشتري من العدو فإن أراد المشتري أن يحبسه حتى يأخذ منه الثمن فله ذلك لأن ملكه إنما حيي بما أدى المشتري فيكون له أن يحبس العبد به بمنزلة راد الآبق يحبسه بالجعل لهذا المعنى لا لأن المولى يتملك ابتداء بما يعطيه من الجعل. فإن مات العبد في يده بطل الفداء عن صاحبه لأنه كان يفدي لتسليم العبد له ولم يسلم. وإن ذهبت عينه فلصاحبه أن يأخذه بجميع الثمن إن شاء سواء كان ذهاب العين بفعل المشتري أو بغير فعله بمنزلة ما لو حصل ذلك قبل قضاء القاضي وهذا لأن الفداء إنما يكون للأصل لا للأوصاف ألا ترى أن العبد الجاني إذا ذهبت عينه لم يسقط عن مولاه شيء من الفداء سواء كان ذلك منه قبل اختيار الفداء أو بعده. وإن قتله المشتري فقد بطل الفداء بمنزلة ما لو مات ولا ضمان على القاتل لأن قتله إياه بعد قضاء القاضي وقبله سواء فإنه ما بقي له حق الحبس باعتبار يده لا يلزمه ضمان قيمته بالجناية كالبائع إذا قتل المبيع قبل القبض وهذا لأن العبد كان مملوكاً للمشتري وكان ما يعطي في حق المولى فداء وفي حق المشتري هو يزيل ملكه عن العبد بعوض يأخذه فيكون بمنزلة البائع. يقتل المبيع قبل القبض وهذا بخلاف راد الابق إذا قتله قبل أن يأخذه بجعل أو ولي الجناية إذا قتل العبد الجاني بعدما اختار المولى الفداء. لأن هناك القاتل لم يكن مالكاً لرقبة العبد قط حتى يبقى ضمان ملكه باعتباره يده وها هنا المشتري من العدو كان مالكاً له فيبقى ضمان ملكه باعتبار بقاء يده وذلك يمنع وجوب ضمان القيمة عليه بالقتل. ولو كان المأسور جارية فولدت في يد المشتري منهم كان لصاحبه أن يأخذه وولدها بالثمن لأن الولد جزء منها وفي الفداء يجعل تبعاً لها فإن قتل المشتري ولدها أو مات الولد قبل قضاء القاضي أو بعده كان لصاحبها أن يأخذ الأم بجميع الثمن إن شاء لأن الوليد تبع في حكم الفداء فبفواته لا يسقط شيء من الثمن بمنزلة فوات سائر الأطراف وإذا ماتت الأم وبقي الولد فكذلك الجواب في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى يأخذ الولد بجميع الثمن إن شاء وفي قول محمد رحمه الله تعالى: يأخذه بحصته من الثمن إذا قسم على قيمتها وقيمة الولد لأن الأصل في هذا الفداء الأم دون الولد فلا يمكن إبقاء جميع الفداء بعد فوات الأصل فلا بد من توزيع الفداء على قيمتها لما يثبت له حق الأخذ في الولد وإنما يثبت له ذلك الحق لأن الولد يسري إليه ملك الأصل وحق الأخذ في الأصل ثابت له باعتباره ملكه فكذلك في الولد وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول: لما بقي له حق الأخذ باعتبار بقاء الولد بقي عليه جميع الفداء لأن الفداء لا يحتمل التوزع على الأصل والتبع وقد تقدم بيان هذه المسألة فيما أمليناه من شرح الجامع فلهذا أوجزنا في البيان ها هنا. وقد ذكر بعد هذا باباً قد بينا شرح مسائله في الجامع. والله الموفق.
وإذا اشترى العبد المأسور فأخرج ثم لم يأخذه المالك القديم بالثمن حتى أقر المشتري لآخر أنه كان عبداً له قبل أن يؤسر وصدقه المقر له وكذبه مولى العبد فإن المقر له لا سبيل له على العبد ومولاه المعروف أحق به بالثمن لأن حق الأخذ ثابت له باعتبار ملكه الظاهر قبل أن يؤسر والمشتري من العدو أقر بذلك الحق بعينه لآخر وإقراره فيما يكون حقاً له صحيح فأما فيما هو مستحق عليه للغير فهو باطل لأنه كان لا يملك إبطال هذا الحق مع قيام ملكه في العبد فلا يملك تحويله إلى غيره توضيحه وهو أن ثبوت حق الأخذ للمأسور منه باعتبار ملكه وملك المقر له يثبت في حق المقر خاصة. لأن الإقرار لا يكون حجة إلا في حق المقر فأما ملك المولى المعروف فهو ثابت في حق المقر له وفي حق المشترى من العدو فلا يثبت للمقر له مزاحمة المولى المعروف باعتبار ملك لم يظهر في حقه. فإذا لم يرغب المولى المعروف في أخذه فللمقر له أن يأخذه بالثمن إن شاء لأن حق الأخذ في حق المقر ثابت للمقر له بإقراره ولكنه كان لا يظهر في حق المولى المعروف لكونه مقدماً عليه فإذا زال ذلك بتسليمه كان له أن يأخذه. وإن أخذه المولى المعروف بالثمن فلا شيء للمقر له على المشتري من العدو من قيمة ولا ثمن لأنه أخذ من يده بحق مستحق لا باختياره. ولو أزاله من ملكه باختياره لم يكن له عليه من سبيل فإذا أخذ منه بغير اختياره أولى وهذا لأنه بالشراء من العدو قد ملكه ملكاً صحيحاً والثمن الذي أعطاه كان مملوكاً له أيضاً ملكاً صحيحاً فما أخذ من الثمن الآن بدل ما أدى فيكون سالماً له وما أخرجه من يده فقد كان مملوكاً له وليس لأحد أن يضمنه شيئاً. ولو كان المشتري أقر انه عبد لهذا الرجل دبره قبل أن يؤسر والمسألة بحالها فهو مدبر للمقر له ولا شيء للمولى المعروف ولا سبيل له على العبد لأن المشتري ها هنا أقر بأنه ملك للمقر له وهو يملك أن يملكه ابتداء بالبيع أو الهبة فيملك الإقرار له بالملك أيضاً. ثم قد تصادقا على أنه مدبر ولو دبره المشتري ابتداء صح تدبيره فإذا أقر أنه مدبر لغيره وصدقه المقر له كان مدبراً أيضاً وبعدما صار مدبراً لا يبقى للمولى المعروف حق أخذه بالثمن كما لو دبره المشتري وهو بهذا الإقرار ما أبطل على المولى المعروف ملكاً هو متقوم لحقه فلا يضمن له شيئاً. قال: ولا يشبه هذا الشفعة يعني أن المشتري للدار إذا أقر بأنها موقوفة على فلان فإنه لا يبطل به حق الشفيع في الأخذ بالشفعة لأن للشفيع ولاية نقص تصرف المشتري بالأخذ بالشفعة فلا يكون إقراره صحيحاً في حقه. بمنزلة ما لو اتخذ الدار مسجداً فأما المولى القديم فليس له حق إبطال تصرف المشتري بالأخذ. ألا ترى أنه لو أعتقه أو دبره لم يكن له أن ينقض حقه أو يأخذه فإقراره بأنه مدبر لغيره يكون صحيحاً في حقه أيضاً بمنزلة المشتري شراء فاسداً إذا أقر بعد القبض أن العبد مدبر لفلان وصدقه المقر له فإنه لا يكون للبائع حق الاسترداد لفساد البيع إلا أن هناك البائع يضمن المشتري القيمة باعتبار قبضه وها هنا المولى القديم لا يضمن المشتري شيئاً لأنه ما قبضه منه ولا تملكه عليه وهو بمنزلة ما لو باشر التدبير في الوجهين جميعاً. ولو قال المقر له قد كان عبدي ولم أدبره قط فليس لواحد منهما أن يأخذه ولكنه يكون مدبراً موقوف الحال لأن المشتري من العدو أقر أنه مدبر والمولى المعروف مقر بأنه ملكه بالشراء وأن إقراره فيه نافذ. وكذلك المقر له فيصير مدبراً باتفاقهم ثم كل واحد منهم ينفيه عن نفسه فيبقى مدبراً موقوف الحال فإذا مات المقر له عتق لأن المشترى قد أقر بأن عتقه قد تعلق بموت المقر له والمقر له كان مقراً بأن إقرار المشتري فيه نافذ فعند موت المقر له يحصل الاتفاق منهم على حريته فإن لم يمت المقر له حتى رجع إلى تصديق المشتري أخذه مدبراً له لأنه أقر له بما لا يحتمل الفسخ وهو الولاء الثابت بالتدبير فلا يبطل ذلك بتكذيبه. ولكنه إذا صدقه بعد التكذيب فهو وما لو صدقه ابتداء في الحكم سواء وإن لم يرجع إلى تصديقه حتى جنى العبد جناية فجنايته تتوقف في قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لأن موجب جناية المدبر على مولاه ولا يدري من المولى منهما والقضاء على المجهول بالقيمة غير ممكن هذا هو القياس ولكن استحسن محمد فاقل: يسعى في الأقل من قيمته ومن أرش الجناية لأن كسبه مملوك لمولاه وأرش جنايته على مولاه باعتبار أن الكسب له ألا ترى أن المكاتب لما كان أحق بكسبه كان موجب جنايته على نفسه فإذا قضينا بالأقل في كسبه فقد قضينا على مولاه بيقين. وأصل هذه المسألة ما ذكرنا في شرح المختصر جارية بين رجلين أقر كل واحد منهما أنها أم ولد لصاحبه وفيه قولان لأبي يوسف رحمه الله تعالى وقد بيناه ثمة. فإن جنى عليه كان الأرش موقوفاً لتوقف الملك في نفسه فإن احتاج إلى نفقة ولم يقدر على كسب لمرض أنفق عليه من أرش الجناية لأنه مال مولاه بيقين ونفقة الملوك عند عجزه عن الكسب على مولاه وإن كان يقدر على العمل ولا أرش له فنفقته على نفسه وإن لم يقدر على العمل تصدق عليه بمنزلة حر مريض لا يقدر على الكسب وليس له قريب يجب عليه نفقته. ولو أن رجلاً اشترى جارية شراء فاسداً وقبضها ثم أقر أنها مدبرة لفلان فقال فلان: هي جاريتي وليست بمدبرتي فإنه يأخذها أمة له لأنه أقر له بالملك وشهد عليه بالتدبير فيصح إقراره فيما أقر به له لوجود التصديق ولا تقبل شهادته عليه لأنه كذبة فيه ولا يشبه هذا العبد المأسور لأن هناك المقر له حين أنكر التدبير فقد زعم أن السبي جرى عليه وأن المشتري قد ملكه وأنه قد أقر فيه بالتدبير وهو يملكه فلم يبق له حق الأخذ بالثمن لما نفذ فيه من إقرار المشتري وها هنا المقر له يقول: العبد عبدي والشراء من المشتري كان باطلاً فإقراره بالتدبير لغو لأنه لم يصادف ملكه فلهذا أخذ الأمة منه بحكم إقراره فتكون مملوكة له غير مدبرة وذكر بعد هذا باباً قد تقدم شرح مسائلة في الزيادات والله الموفق.
|