الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **
قد بينا أن من لا شركة له في الغنيمة بسهم أو رضخ فإنه لا يحل له تناول الطعام والعلف من الغنيمة لأنه ليس من جملة الغزاة وحل ذلك للغزاة كان بطريق الضرورة فإنهم لا يقدرون على حملها من دار الإسلام ولا يجدونها في دار الحر شراء لأنهم مقاتلون للعدو لا معاملون معهم. فأما التجار لا تتحقق الضرورة في حقهم لأنهم لا يجدون ذلك بطرق الشراء. ثم الغزاة يتقوون بما يأكلون ويعلفون دوابهم على نصرة الدين وتحصيل الغنائم في المستقبل بخلاف التجار ومع هذا لا ضمان على التجار فيما أكلوا من ذلك في دار الحرب لنهم لو استهلكوا ذلك لا على وجه الانتفاع لم يضمنوا فعلى وجه الانتفاع أولى. وكما أن للغزاة أن يتناولوا من ذلك فلهم أن يطعموا من يجب عليهم نفقته من العبيد والنساء والأولاد إذا كانوا معهم في دار الحرب لأن حاجة هؤلاء إلى النفقة كحاجة أنفسهم ولو لم يطعموهم من الغنيمة احتاجوا إلى أن يكتسبوا للإنفاق عليهم وما كان من أجير لا يقاتل فلا ينبغي له أن يرزأ شيئاً من ذلك لأنه لا نصيب له في الغنيمة وهو غير مستوجب نفقته على من استأجره وإنما له الأجر فقط. والمدد إذا لحق الجيش قبل القسمة والبيع فلهم أن يتناولا من ذلك الطعام والعلف لأنهم شركاء الجيش في الغنيمة بعدما لحقوا بهم فإن قسمت الغنيمة أو بيعت فليس لأحد أن يأخذ من ذلك شيئاً بدون إذن من وقع في سهمه وإن فعل ذلك ضامناً له بمنزلة سائر أملاكه ولو أخذ جندي شيئاً من طعام الغنيمة فأهداه إلى تاجر في العسكر لا يريد القتال لم يستحب للتاجر أن يأكل ذلك لأن التناول منه مباح للجندي وذلك لا يتعدى إلى الإهداء ألا ترى أن المباح له الطعام لا يملك أن يهديه إلى غيره ولأن الإباحة للجندي لأجل الضرورة ولا ضرورة في الإهداء إلى الغير وإذا سقط اعتبار إهدائه كان هذا وما لو أخذه التاجر بنفسه من الغنيمة سواء ويستوي أن لو كان الجندي المهدي هو الذي أتى بذلك الطعام من بعض المطامير أو غيره أتى به لأنه غنيمة في الوجهين. بخلاف ما لو احتش الجندي أو استقى ماء ثم بعث به إلى تاجر فلا بأس للتاجر أن ينتفع به لأن ذلك ليس من الغنيمة وقد صار ملكاً خالصاً لمن أحرزه فله أن يهديه إلى من أحب. ألا ترى أنه ليس لغيره أن يأخذه شيئاً من ذلك بغير رضاه وإن كان محتاجاً إليه بخلاف الطعام فإنه من جملة الغنيمة ألا ترى أن الذي جاء به إذا لم يكن محتاجاً إليه فلا بأس لغيره من الغزاة أن يأخذ منه بمقدار حاجته. وإن كان الأخذ محتاجاً إليه فلا ينبغي لأحد أن يأخذ منه شيئاً بغير رضاه لأنه إنما يأخذه لحاجته وقد تعين لحاجة صاحبه وبعد ما استويا في المعنى الترجيح يقع بالسبق وقد سبقت يده إليه فكان هو أحق به عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: " منى مناخ من سبق ". واستدلالاً بمن حضر الجامع وجلس في موضع ينتظر الصلاة فإنه لا يكون لأحد أن يزعجه من ذلك ليجلس فيه بنفسه. والدليل على الفرق بين الحشيش والطعام أن الحشيش لو أخذه الإنسان من المحرز بغير إذنه فاستهلكه كان ضامناً له والطعام لو أخذه جندي أو تاجر ممن جاء به فاستهلكه لم يكن عليه ضماناً له لأنه من الغنيمة والغنيمة لا تضمن بالاستهلاك في دار الحرب. ولو أن جندياً ذبح شاة من الغنيمة فسلخها وطبخ لحمها أو أخذ حنطة من الغنيمة فطحنها وخبزها ثم دعا تاجراً إلى طعامه حتى أكله معه أو أهداه إليه لم أر بأساً بذلك لأنه قد استهلك طعام الغنيمة بما صنع. ألا ترى أن الغاصب لو فعل ذلك بملك الغير كان متمكناً ضامناً للمغصوب منه فإذا فعله بالغنيمة أولى أن يصير متملكه ثم الملك يطلق له الإباحة والإهداء إلى الغير بخلاف ما إذا لم يتغير الطعام حاله. والذي يوضح الفرق بينهما أن بعد التغير لو جاءه إنسان فأتلفه كان ضامناً له وقبل ذلك لو أتلفه إنسان لم يكن ضامناً ثم مبنى الطعام المهيأ للأكل على التوسع فيه. ألا ترى أن العبد المأذون إذا صنع طعاماً فدعا إليه غيره بغير إذا مولاه لم يكن بأكل ذلك بأس وكسبه مملوك لمولاه فهذا الذي لا ملك فيه لأحد يكون أيسر منه لا محلة. ولو أن تاجراً ذهب مع الجند إلى بعض المطامير وهي نائية عن العسكر فجاء منها بطعام فلا بأس بأن يأكل من ذلك ويعلف دابته لأنه هو الذي أصابه وإنما يثبت حق سائر الغانمين فيه بإصابته فلا يكون حقهم في ذلك مانعاً له من الانتفاع به ألا ترى أنه لو أصاب مالاً آخر كان هو شريكاً للعسكر في ذلك المال وإن لم يكن شريكاً لهم فيما أحرزوه دونه وكذلك في الطعام ولذلك يشترط أن يأتي به من موضع بعيد لأن ما كان بالقرب من العسكر فقد صار مأخوذاً بقوة أهل العسكر قبل إصابته فهو نظير المحرز بأخذ أهل العسكر دونه. والغنم والبقر من جملة الأطعمة لا بأس لكل واحد من الغانمين أن يذبحه ويتناول منه لحاجته في دار الحرب ما لم يخرجوا إلى دار الإسلام فأما بعد الخروج فلا يحل شيء من ذلك إلا عند تحقق الضرورة بشرط الضمان لأن الحق يتأكد في الغنيمة بالإحراز فحكم الشركة يتقرر في الطعام والعلف بتأكد الحق كما يتقرر الملك بالقسمة والحق بالبيع. وإن كانوا فصلوا من دار الحرب ولكنهم في الدرب بعد في موضع لا يأمن فيه المسلمون إلا بالجند العظيم ولا يقدر أهل الحرب على المقام فيه أيضاً فهذا وما لو كانوا في دار الحرب سواء في إباحة تناول الطعام والعلف لأن هذه البقاع كانت في يد أهل الحرب فكل موضع لا يأمن فيه المسلمون ولا يقدرون على المقام فيه فهو باق على ما كان ولأن إباحة التناول لأجل الحاجة والحاجة متحققة في هذا الموضع لعوز الطعام والعلف فيه بالشراء. فإذا أخرجوا إلى الموضع الذي يأمن فيه المسلمون فقد ارتفعت الحاجة وليس لهم أن يتناولوا بعد ذلك شيئاً من الطعام والعلف قال: ثم ما داموا في دار الحرب فلا فرق في إباحة التناول بين أن يكون عند المتناول طعام كثير من ذلك الجنس وبين ألا يكون لأن باعتبار الحاجة صار الطعام مستثنى من شركة الغنيمة ما داموا في دار الحرب باقياً أصل الإباحة وباعتبار بقائه على أصل الإباحة يستوي في الانتفاع به المستغني عنه والمحتاج إليه. قال: وإذا ذبحوا غنماً أو بقراً للأكل فليردوا جلودها في الغنيمة لأن هذا مما لا يدخل تحت مصلحة الأكل خصوصاً بعد ما جف ويستوي في إباحة التناول ما يؤكل على سبيل الغذاء عادة سواء كان مما يكون في ذلك الموضع أو مما ينقل إليه من موضع آخر وقد بينا فيه خلاف بعض أهل الشام في هذا. وما يكون من التوابل للقدور فهو بمنزلة ما يتغذى به لأنه مأكول في الناس عادة. وما يحتاجون إليه في الوقود فالجواب فيه كالجواب في الطعام لأن الحاجة إليه معلوم وقوعها وإصلاح الطعام للأكل لا يكون إلا به. وكل ما يجوز أن يوقدوا به لطبخهم من أنواع الحطب فكذلك يجوز أن يفعلوا ذلك لبرد أصابهم لأن ذلك من أصول حوائجهم. ألا ترى أنهم لو أوقدوا للطبخ لم يمنعوا من الاصطلاء بها. فكذلك إذا أوقدوا للاصطلاء بها في الابتداء وكل ما يكون من الأدهان لهم أن يأكلوا كالزيت ونحوه ولم أن يستصحبوا به لأنه انتفاع بالعين على وجه يصير مستهلكاً فيه من الوجهين فأما البزر للسراج فهو كالحطب للوقود وكل واحد منهما يعلم وقع الحاجة إليه فيكون مستثنى من شركة الغنيمة. فأما البنفسج والخيري والزنبق فلا ينبغي لهم أن يستصحبوا بشيء م ذلك لأن هذا ليس مما يؤكل عادة لأنه لا يحل لهم الأدهان به إذ الأدهان ليس من أصول الحوائج فهو كالغالية والطيب لا يجوز لهم أن يتطيبوا بشيء من ذلك لأن ذلك ليس من أصول حوائجهم فإذا لم يحل الأدهان به الاستصباح به أولى. وكذلك لا ينبغي أن يتناولوا شيئاً من الزنجبيل المربى والإهليلج المربى وكذلك من سائر الأدوية التي تؤخذ وقد صنعها العدو لأن هذه ليست بأطعمة الناس يعني أنها ليست من أصول الحوائج ومما يتعلق بها بقاء النفس فلا تكون مستثنى نم شركة الغنيمة بخلاف الطعام ألا ترى أن المرأة تستوجب على زوجها بعقد النكاح النفقة ولا تستوجب عليه الدواء. إلا أن يبيع الإمام شيئاً من ذلك واشتراه رجل فحينئذ يكون له أن يتناوله لأنه اختص بملكه حين باشر سببه. فإن وجد شيئاً من الأدوية نابتاًفي أرضهم فأخذ من ذلك فإن كان للمأخوذ قيمة في ذلك الموضع فهو من جملة الغنيمة فلا ينتفع بشيء منه لأن مأخوذه ومأخوذ غيره فيما هو من الغنيمة سواء. وإن كان شيئاً لا قيمة له في ذلك الموضع فلا بأس بأن يتداوى به لأنه بمنزلة الحشيش في جواز الانتفاع به في هذا الموضع إذا لم يكن متقوماً وإن كان لو نقله إلى موضع آخر يصير متقوماً. وعلف الدواب فيما ذكرنا قياس طعام بني آدم لأن حاجة الغازي إلى علف دابته أصلية بمنزلة حاجته إلى الطعام. وما جاز له أكله جاز أن يعلف دابته أيضاً ألا ترى أن السمن لما جاز له أن يوقح دابته وكذلك لا بأس له بأن ينتفع بالخل لأنه مطعوم وهو إدام الطعام وهو بمنزلة التوابل في إصلاح المرقة به فأما الثياب والأواني وسائر الأموال فليس ينبغي لأحد أن ينتفع بشيء من ذلك لأن حاجته إلى الانتفاع ه غير معلوم وقوعها فلا يصير مستثنى من شركة الغنيمة ولا يباح الانتفاع به إلا عند تحقق الضرورة فإن عند تحقق الضرورة يجوز له أن ينتفع بملك الغير فلا يجوز الانتفاع بالغنيمة أولى. ثم إذا ذهبت الضرورة يرده في الغنيمة ولا ضمان عليه في النقصان بخلاف ملك الغير فإن هناك يضم بالاستهلاك ويضمن بإدخال النقصان فيه باستعماله أما الغنيمة فلا يضمنها بالاستهلاك في دار الحر إلا أن في الاستهلاك من غير حاجة يؤدبه الأمير وعند الحاجة يعذره والضرورة في الثياب أن يصيبه البرد حتى يخاف على نفسه وفي الأواني بأن يحتاج إلى الأكل والشرب فيها وليس عنده شيء من ذلك وكذلك ركوب الدابة فقد جاء في الأثر أن ركوب دواب لا غنيمة من الغلول فإن وجد حماراً أو فرساً أو بغلاً أو برذوناً ولا حاجة به إلى ركوبها بأن كان عنده غيرها أو كان راجلاً ولكن لم يلحقه عناء شديد فليس له أن يركبها وإن ركب شيئاً منها ليسقيها أو يحمل عليها علفاً أو علف الغنيمة فلا بأس به لأن هذا من حاجة ما هو غنيمة وهذه الدابة في نفسها غنيمة وليس له أن يركبها بحاجة نفسه. ولا يحمل شيئاً من متاعه أو علف دوابه التي يملكها ولا يقاتل عليها أيضاً حتى تجيء الضرورة وهو المارد من الأثر إن ذلك من الغلول والضرورة في الركوب أن يكون قد أعيى وهو يخاف العدو إن لم يركب أو لا يخاف العدو ولكنه قد بلغ منه الجهد بحيث يخاف على نفسه أو يكون قد قتل فرسه فلا يستطيع أن يقاتل راجلاً فحينئذ لا بأس بأن يركبه وإن تلف لم يضمن شيئاً في الحكم ولا فيما بينه وبين الله - تعالى - لأن الركوب مباح له شرعاً. بخلاف ما يستهلكه من غير حاجة فإنه لا يكون ضامناً في الحكم لعدم تأكد الحق فيه ولكن عليه أن يغرم قيمة ذلك فيما بينه وبين الله - تعالى - لأنه آثم في الاستهلاك فيفتي بأداء الضمان. والانتفاع بالأسلحة بمنزلة ركوبه الدابة في جميع ما ذكرنا متى كان مباحاً له شرعاً لأجل الضرورة فهو غير ضامن لما يتلف به في الحكم وفيما بينه وبين الله - تعالى - ومتى كان آثماً في الاستعمال فإنه يفتي بالغرم فيما بينه وبين ربه وإن كان لا يجبر عليه في الحكم لأن التوبة تلزمه في هذا الموضع تمام التوبة برد قيمة ما أتلفه من الغنيمة. والجلال للدواب بمنزلة الثياب للناس واللجم والسروج للدواب بمنزلة السلاح للرجال في جميع ما بينا ولو وجدوا في دار الحرب أشناناً أو صابوناً فأراد بعضهم غسل ثيابه بذلك فهو مكروه لأن هذا ليس من أصول الحوائج فباعتبار لا يثبت الاستثناء من شركة الغنيمة. إلا أن الأشنان إن كان نابتاً في موضع لا قيمة له فلا بأس لمن أخذه أن ينتفع به وإن كان في موضع له قيمة فبأخذه يصير ذلك من الغنيمة فهو بمنزلة مأخوذ غيره وما أحرزه العدو في بيوتهم فإن قيل: قد رخص له أن يوقد النار بالحطب وإن كان له قيمة في ذلك الموضع فلماذا لا يرخص له في غسل الرأس بالخطمي وغسل اليد والثياب بالأشنان والصابون قلنا: لأن في الوقود معنى إصلاح الطعام الذي هو من أصول الحوائج فباعتباره يصير مستثنى من شركة الغنيمة وذلك لا يوجد في هذه الأشياء فلا يصير مستثنى ولو وجد مجمراً لم يكن له أن يتجمر به لأن هذا ليس من أصول الحوائج كالطيب. وكذلك لا يوقد به لأن هذا ليس من الوقود في الناس. فإن كان في موضع من أرض العدو وذلك خشبهم الذي يوقدون به فلا بأس بأن يوقدوا به وعند ذلك يتجمر به أيضاً بطريق الأولى. ولو وجدوا أخونة وقصاعاً وأوتاداً فليس ينبغي لهم أن ينتفعوا بها للوقود إلا عند تحقق الضرورة لأن هذا بمنزلة الأمتعة لا يستعمل في الوقود عادة. فأما الخشب الذي هو غير معمول فإن كان له قيمة في ذلك الموضع فإنه لا يحل الانتفاع به إلا للوقود وإن كان لا قيمة له في ذلك المكان فلا بأس بالانتفاع به وقد ذكرنا حكم اتخاذ القصاع والأقداح منه بعد إخراجها إلى دار الإسلام فأما قبل الإخراج إلى دار الإسلام إذا أراد الانتفاع بشيء م ذلك فلا بأس به لأن قبل الصنعة كان الانتفاع به مباحاً له باعتبار أنه غير متقدم في ذلك الموضع فصنعته لا تحول بينه وبين الانتفاع به أيضاً وإن أراد الأمير قسمة الغنائم في دار الحرب فإنه يأخذ ذلك من العامل فيجعله في الغنيمة بعد أن يعطيه قيمة عمله بأن يقوم الخشب معمولاً وغير معمول فإن كان باعها أعطاه فضل ذلك من الثمن وإن كان الخشب المعمول لا قيمة له غير معمول في دار الحرب ولا في دار الإسلام فهو سالم لصاحبه لأنه بعمله صار مالاً متقوماً فيكون كسباً له ألا ترى أن من اتخذ كوزاً من تراب غيره يكون مملوكاً له والطين الذي يتخذ منه القدور في هذا بمنزلة الخشب الذي تعمل منه القصاع على ما بينا. وإذا ذهب قوم في طلب الغنائم فوجدوا أرماكاً للمشركين وأمتعة وطعاماً وسبياً فلا بأس بان يحملوا ذلك كله على الأرماك حتى يأتوا به العسكر لأن ذلك كله للغانمين والحمل وما يحمل عليه وإذا ثبت الحكم بهذه العلة في الأمتعة فكذلك في الطعام لأنهم إنما يأتون بالطعام لينتفع به الجيش كلهم. وإن وجدوا شيئاً يسيراً من العلف والطعام فأخذوه لحاجة أنفسهم فإنه لا يستحب لهم أن يحملوه على الأرماك التي للعدو ولا على حمرهم وبغالهم ولا على عجلهم إلا عند تحقق الضرورة لأنهم أحق الناس بذلك الطعام إذا لم يكن فاضلاً عن حاجتهم فكان حكمه حكم الطعام الذي أدخلوه من دار الإسلام لحاجتهم ولو وجدوا بقراً وثيراناً وإبلاً فلا بأس بأن يحملوا عليها ما أخذوا من الطعام لحاجة أنفسهم لأن هذا من جملة الطعام أيضاً. ألا ترى أن لهم أن يذبحوه للأكل ويكون أخص به إذا لم يكن فاضلاً عن حاجتهم فكذلك لا بأس بأن يحملوا عليها ما أخذوا من الطعام لحاجة أنفسهم بخلاف ما تقدم. فإن وجدوا الطعام اليسير على الأرماك وذلك لا يفضل عن حاجتهم فعليهم أن يأخذوا ذلك عنها ويحمولها على دوابهم ثم يسوقن الأرماك عرياً إلى المعسكر لأن استدامة الحمل عليها كإنشائه. ولو كان معهم طعام أدخلوه من دار الإسلام فأرادوا أن يحملوا ذلك على الإبل والبقر من الغنيمة لم يحل لهم ذلك إلا عند الضرورة لأنها وإن كانت أطعمة فهي من الغنيمة ألا ترى أن ما يفيضمنها عن حاجتهم فلسائر الغانمين أخذه منهم والمحمول ملك خاص لهم لا سبيل لأحد على شيء منه فلا يكون لهم أن ينتفعوا بما هو من الغنيمة من وجه فيما ليس من الغنيمة في شيء من الوجوه بخلاف الطعام الذي أخذوه لحاجة أنفسهم وإنما يحمل طعامهم ومتاعهم عليها بمنزلة ركوبهم إياها. وإن وجدوا غرائر لأهل الحرب فيها الطعام فذها والأرماك التي يوجد عليها الطعام سواء لأن الغرائر ظروف فهي من الغنيمة لا من الطعام كالأرماك فأرادوا ذبحها وأكلها لم يؤذن لهم في ذلك إلا عند تحقق الضرورة وهذا على أصل أبي حنيفة - رصي الله عنه - ظاهر أنه يكره لحم الخيل كما هو قول ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - فلا يكون الخيل من جملة الطعام في الغنيمة وعلى قولهما وإن كان أكله مباحاً لمالكه ولكن ما يكون من جملة الغنيمة لا يعد من جملة الطعام الذي يرخص لكل واحد منهم في الاختصاص به أكلاً إلا أن يكون معداً لذلك عرفاً أو منصوصاً عليه شرعاً ومنفعة الأكل في الأنعام منصوص عليه قال الله تعالى: وإن رأى الأمير أن يمنعهم من تناول الطعام والعلف فلا بأس بذلك إذا كان على وجه الاعتبار والنظر فيه لهم بأن كانوا أغنياء عن ذلك ألا ترى أنه لو رأى أن يبيعها أو يقسمها في دار الحرب كان ذلك نافذاً منه ويرتفع به حكم إباحة التناول فكذلك إذا رأى أن يمنعهم من التناول إلا أن يكونوا محتاجين إلى ذلك فحينئذ يكره له أن يمنعهم من التناول أصلا ًويمنعهم من التناول إلا بثمن لأنه يقصد إلى رخصة شرعية فيريد رفعها برأيه مع حاجة الناس إليها وذلك منهي عنه بمنزلة ما لو منعهم من الانتفاع بالماء للعامة أو التطرق في الطريق الجادة. فإن فعل ذلك وأخذ منهم الثمن فجعله في الغنيمة ثم رفع إلى قاض آخر يرى خلافه فإنه يمضي قضاءه لأن ذلك حصل منه في موضع الاجتهاد. وقد بينا أن قضاء مثله في المجتهدات نافذ. قال: وقد قال بعض الناس: لا ينبغي للأمير أن يعرض بشيء من ذلك المال وإن كان الناس عنه أغنياء ولم يتبين هذا المخالف من هو فكأنه اعتمد ما ذكرنا من النكتة أنه يمنعهم من الرخصة الشرعية ولكن علماءنا - رحمهم الله تعالى - قالوا: بثبوت الرخصة لأجل الحاجة فعند تحقق الحاجة هو في منعهم عن الرخص قاصد إلى الإضرار بهم لا إلى توفير المنفعة عليهم حتى لو كان في ذلك منفعة ظاهرة للمسلمين كان هو في سعة من أن يفعله أيضاً فأما في غير موضع الحاجة فهو ناظر لهم وله ولاية النظر ولو لم يكن فيه سوى أن عند المنع لا يسرفون في التناول من طعامهم وعند الإطلاق يسرفون في التناول من طعام الغنيمة لكان هذا كافياً في سعة الرأي والاجتهاد له في المنع. وما وجدوا في منازل أهل الحرب من طين قد أحرزوه لغسل الرأس أو من الطين الذي للدواء فليس أحب لهم أن يستعملوا شيئاً من غير حاجة لأن بالإحراز صار ذلك مملوكاً لهم وما يصاب من ملكهم بطريق القهر يكون غنيمة وهذا الاستعمال ليس من أصول الحوائج فإن وجدوا طيناً لم يحرزوه فإن كان له قيمة في ذلك الموضع فلا بأس بأن يستعملوه وهذا وما تقدم من نظائره سواء. وكذلك الحكم فيما وجدوا من دم الأخوين والحرمل بخلاف الوقود فإنهم وإن وجدوا من ذلك ما قد أحرزوه فلهم أن ينتفعوا به وهو استحسان وفي القياس لا يكون لهم ذلك إلا باعتبار الحاجة ولكن قد بينا أن الوقود يتحقق فيما هو من أصول الحوائج. فإن وجدوا أوتاداً أو عموداً لفسطاط قد جعله أهل الحرب فهذا مال متقوم من جملة الغنيمة فلا ينبغي لأحد منهم أن ينتفع به من غير حاجة وكذلك ما وجدوا من خشب أحرزه أهل الحرب لغير الوقود فجعل بعضهم من ذلك أوتاداً أو قصاعاً لم ينبغ له أن ينتفع بشيء من ذلك لأن حكم الغنيمة ثابت في أصله وإن لم ثابتاً في الصنعة حتى أن على الإمام أن يبيع ذلك ويقسم الثمن على قيمته غير معمول وعلى قيمته معمولاً فيعطيه حصة عمله ويجعل الباقي في الغنيمة أو يعطيه حصة قيمة عمله ويجعل ذلك في الغنيمة. وكذلك لو كان الصانع هو الذي أخذ الخشب من شجرهم وكان له قيمة في ذلك الموضع فإذا لم يكن له قيمة فلا بأس بأن ينتفع به في دار الحرب فإذا خرج إلى دار الإسلام فحكمه كحكم ما سبق لأن الأصل غنيمة ف الوجهين ولكن في الموضع إنما صار غنيمة بأخذه وهو ما قصد بأخذه سوى الانتفاع به فجعل انتفاعه به مقدماً باعتبار قصده وهناك قد كان ذلك غنيمة باعتبار الاستيلاء عليه بعد إحراز المشركين له فلا يكون له أن ينتفع به من غير حاجة ثم ذكر حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله تعالى عنهما - أنه كان يأمر أهل العسكر إذا فصلوا من الدرب أن يردوا الأوتاد في الغنيمة. قال: ولا بأس بأن يدهنوا سروجهم وجلودهم التي يقاتلون عليها بالزيت والشحم الذي يصبونه في دار الحرب فأما ما حملوا من ذلك معهم للتجارة لا للقتال فلا ينبغي لهم أن يدهنوا به شيئاً من ذلك والقياس في الكل واحد لأن ما أصابوه من جملة الغنيمة ولكنه استحسن فقال: لهم أن يأكلوا ذلك ليتقووا به على القتال فكذلك لهم أن يدهنوا به ما يستعملونه في القتال بأدهان فأما دهان ما حملوه للتجارة معهم ليس مما يحصل لهم به التقوى على القتال فهو نظير التجار في العسكر لا يكون لهم أن يتناولوا شيئاً من ذلك. ولو أودع الأمير شيئاً من الغنائم في دار الحرب مسلماً فاستهلكه لم يكن ضامناً لأن الحق فيه غير متأكد قبل الإحراز فاستهلكه قبل الإيداع وبعده سواء إذ الإيداع ليس من الإحراز في شيء. وللإمام أن يؤدبه لأنه خان فيما ائتمنه. ولو استهلكه قبل الإيداع أدبه على ذلك فبعده أولى إلا أيكون طعاماً فأكله فحينئذ لا يؤدبه فيه إذا كان من جملة الغانمين كما لو أكله قبل الإيداع ولو كان قال له: إن استهلكته فأنت ضامن له كان هذا الشرط باطلاً لأنه مخالف لحكم الشرع من حيث اشتراط الضمان على الأمين واشتراط الضمان قبل تأكد الحق فيه بالإحراز. وإن قال حين دفعه إليه: هو عليك بقيمته أو هو عليك بألف درهم فرضي به القابض فهذا بيع لأنه صريح بالبيع الصحيح أو بالبيع الفاسد والبيع الفاسد كان أو صحيحاً بمنزلة الإحراز من الإمام فإن الملك يثبت له إما بنصيبه أو عند القبض كما يثبت بالقسمة. ولو نقل أمير العسكر لسرية بعثها الربع بعد الخمس فجاءوا بطعام فلا بأس بأن يتناولا منه وإن كانوا أغنياء عنه أهل العسكر وأهل السرية في ذلك سواء لأن التنفيل لا يؤثر في حكم تناول الطعام والعلف فإن حق المنفل بمنزلة سهام الغانمين وفي السهام التفاوت بين الفرسان والرجالة ثابت ولم يمنع ذلك التسوية بينهم في إباحة التناول فكذلك النفل. ولو نفل للسرية جميع ما أصابت فلا بأس لأهل السرية أن يتناولا منها لقيام شركتم فيها بسهامهم وليس لأهل العسكر أن يتناولا من ذلك شيئاً لأنه لا نصيب لهم فيه فحالهم فيما جاء به أهل السرية بعد التنفيل كحال التجار في الغنيمة. ولو كان الأمير قال للسرية: من أصاب منكم شيئاً فهو له خاصة فليس لأحد منهم أن يتناول من طعام قد أخذه صاحبه إلا بالثمن أو أن يعطيه صاحبه لأن هذا التنفيل بمنزلة القسمة فكل من أصاب شيئاً بعد هذا فقد اختص بملكه ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه فإن تناول رجل من ذلك شيئاً بغير رضاه من أصابه فهو ضامن له كما هو الحكم في الغنائم بعد القسمة. ألا ترى أن أحدهم لو أصاب جارية فاشتراها بحصته فله أن يطأها وقد بينا هذا في السير الصغير. ولو لم ينفل الأمير للسرية شيئاً فاستأجر أميرهم قوماً يسوقون الغنائم إلى العسكر جاز ذلك من جملة ما أصابوا لأن الأمير إنما أرسله للقتال وإحراز الغنائم فيمون ذلك إذناً له فيما يحصل به الإحراز وهو السوق للدلالة وإن لم يصرح بذلك. ثم ينبغي لأمير العسكر أن يبيع مما جاءوا به من الطعام ما يؤدي أجر الأجراء ويخلي ما بين الناس وبين ما بقي حتى يأكلوا وهذا إذا لم يصب أهل العسكر غنيمة أخرى فإن كانوا أصابوا أعطى أجر الأجراء من ذلك وخلى بين الناس وبين ما جاء به أهل السرية من الطعام والعلف ليأكلوا بقدر حاجتهم فإن أكلوا ذلك كله قبل أن يباع فللأجراء مقدار أجرهم فلا ضمان على أحد فيما يأكل منه ولكن إن غنموا أخرى قبل أن يخرجوا إلى دار الإسلام أعطى من ذلك أجر الأجراء وإلا أعطاهم أجرهم من بيت المال لأن هذا دين وجب لحاجة المسلمين ولأن الغرم مقابل بالغنم والله الموفق.
وإذا وجد الغلول في رحل رجل أوجع ضرباً ولم يبلغبه أربعين سوطاً لأنه ارتكب جريمة ليس فيها حد مقدر فيعزر عليها ولا يبلغ بالتعزير شيئاً من الحد لقوله صلى الله عليه وسلم: " من بلغ حداً في غيره فهو من المعتدين ". ولا يحرق رحله بما صنع لأنه خائن والخيانة لا توجب عليه إحراق رحله. ولا قطع عليه أيضاً لأن له فيها نصيباً ومن سرق مالاً له فيه نصيب لم يلزمه قطع اليد. وهذا قول الجمهور من الفقهاء فأما أهل الشام كانوا يقولون: يحرق رحل الغال ويروون فيه حديثاً عن الحسن - رضي الله تعالى عنه - قال: يؤخذ الغلول من رحله ثم يحرق رحله إلا أن يكون فيه مصحف وأصحاب الحسن يروون عنه موقوفاً وقد ذكر الأوزاعي عن الحسن هذا الحديث مرفوعاً ولكن الفقهاء لم يصححوا هذا الحديث لأنه شاذ يرويه مجهول ولا يعرف فإن الأوزاعي لم يذكر لم يذكر اسم الرجل الذي بينه وبين الحسن ثم هو مخالف للآثار المشهورة وقد ذكر في الكتاب بعضها. أن رسول الله صلى عليه وسلم ألحق الوعيد بكل من ظهر منه غلول ولم يشتغل بإحراق رحل أحد فمن ذلك حديث مدعم - عبد لرسول الله صلى الله عليه وسلم - قد وهبه له رفاعة بن زيد فبينا هو بحذاء رحل النبي عليه الصلاة والسلام إذ جاءه سهم عائر فقتله أي لا يدري من رمى به فقال الناس: هنيئاً له الجنة فقال صلى الله عليه وسلم: " كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها القسمة لتشتعل عليه ناراً " فلما سمع الناس ذلك جاء رجل بشراك أو بشراكين فقال صلى اله عليه وسلم: " شراك من نار " وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: استشهد فلان فقال: " كلا إني رأيته يجر إلى النار بعباءة غلها " وقال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: ما ظهر الغلول في قوم قطر إلا ألقي في قلوبهم الرعب ولا فشا الربا في قوم إلا كثر فيهم الموت ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق ولا حكم على قوم بغير حق إلا فشا فيهم الدم ولا نقض قوم العهد إلا سلط عليهم العدو ولما قال رجل لسلمان - رضي الله عنه -: إني أخذت خيطاً من الغنيمة فخطت به ثوبي قال: كل شيء وقدره. فهذا كله دليل على عظم الوزر في الغلول وأنه ليس فيه إحراق الرحل لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. وقال جابر - رضي الله عنه -: ليس في الغلول قطع ولا نكال وهذا بنفي إحراق الرحل فإن ذلك أعظم النكال. وكما لا يحرق رحل الغال لا يحرم سهمه من الغنيمة ولا من العطاء لأنه لو سرق مالاً لا نصيب له فيه لا يحرم سهمه به فإذا كان له نصيب أولى. والذين يقولون بإحراق رحله يقولون لا يحرق المصحف ولا الحيوان ولا السلاح فيه يقاس سائر الأمتعة. فإن قالوا: إنما لا يحرق الحيوان لمعنى المثلة فينبغي لهم أن يذبحه ثم يحرقوه وإن قالوا: لا يحرق السلاح لأنه يتقوى به على القتال فكذلك سائر الأمتعة لأن الغازي لا يستصحب في العادة إلا ما يحتاج إليه للقتال. والدليل على ضعف هذا الحديث المروي فيه أن الغلول فيما نرى ما كان في زمن من الأزمنة أكثر منه في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم لكثرة المنافقين والأعراب الذين يغزون معه وهم كانوا أصحاب غلول وكان الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يفعلون وما يعتقدون وأهل المغازي لم يدعوا شيئاً مما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغازية إلا رووه فلو كان أحرق رحل أحد لنقلوا ذلك مستفيضاً وحيث لم يوجد ذلك في شيء من الكتب المشهورة عرفنا أن الحديث لا أصل له ثم فيه إثبات حد بحديث شاذ وإثبات ما يخالف الأصول مما يثبت مع الشبهات بمثل هذا الحديث الشاذ لا يجوز فكيف يثبت به ما يندرئ الشبهات! أرأيتم ثيابه التي عليه أتحرق ويترك عرياناً فلعله لا يؤمن عليه أن يموت من البرد أرأيتم إن لم يكن له رحل أيحرق متاعه الذي في بيته بالثغر أو ما عنده من وديعة أو عارية لإنسان في رحله أرأيتم رجلين أعار كل واحد منهما صاحبه متاعاً ثم غل كل واحد منهما أيحرق ما عند كل واحد منهما من متاع صاحبه أرأيتم قوماً مجتمعين في رحل غل بعضهم وعلم به أصحابه ولم يخبروا بما صنع أيحرق متاعه خاصة أو متاعهم بكتمانهم عليه واستكثر من الشواهد في تبعيد قول من يقول بحرق رحل الغال ثم ذكر الأصل الذي بينا في كتاب الاستحسان. إن الكبار من الصحابة - رضي الله تعالى عليهم - كانوا لا يعملون بخبر الواحد حتى يشهد به غيره معه أو حتى يحلف كما هو قول علي - رضي الله تعالى عنه - فإذا كان هذا مذهبهم فيما يثبت مع الشبهات كالميراث وفي الاستئذان الذي لا يتعلق به حكم ملزم فكيف يعتمد على حديث شاذ في إقامة حد عظيم وهو إحراق رحل الغال فإن ذلك مما لا يجوز إثباته مع الشبهة ألا ترى أن الصحابة - رضي الله تعالى عليهم - اتفقوا على حد الخمر ثم كان علي - رضي اله تعالى عنه - يقول: " ما كنت لأقيم على رجل حداً فيموت فيكون في نفسي من ذلك شيء إلا حد الخمر " فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر - رضي الله تعالى عنه - لم يسناه فبهذا تبين أن قول من يقول بإحراق رحل الغال ضعيف جداً والله الموفق.
ولا بأس ببيع الغنائم فيمن يزيد فإن النبي صلى الله عليه وسلم باع قعباً وطستاً بيع من يزيد وإنما أوردت هذا لأن من الناس من يكره بيع المزايدة وقال: إنه استيام على سوم الغير وقال صلى الله عليه وسلم: " لا يستام الرجل على سوم أخيه " وليس كما ظنوا فالاستيام على سوم الغير إنما يكون بعد أن سركن كل واحد منهما إلى صاحبه والمزايدة تكون قبل ذلك حتى أن صاحب المتاع إذا كان هو المنادي على سلعته فإن طلبه إنسان بثمن سماه فلم يسكت عن النداء فلا بأس لغيره أن يزيد وإن سكت عن النداء وركن إلى ذلك لم يحل لأحد أ يزيد لأن ذلك يكون استياماً على سوم الغير. وإن كان المنادي هو الدلال فما لم يخبر به صاحب المتاع يجوز لغيره أن يزيد وإذا أخبره بلك فركن إليه لم يحل لأحد أن يزيد بعد ذلك وذكر عن مكحول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السهام حتى تقسم وبه نأخذ فإن بيع الغازي سهمه قبل القسمة باطلاً لأنه باع ما لا يملك. ألا ترى أنه لو أعتق كان عتقه باطلاً فالبيع أحرى أن يكون باطلاً ألا ترى أنه لا يدري أن نصيبه أين يقع وما دام في دار الحرب لا يدري أنه هل يبقى حياً حتى يكون له نصيب أو يموت قبل الإحراز. وهذا هو المراد بما يرويه عمر بن عبد العزيز - رضي الله تعالى عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغنائم حتى تقسم وقد بينا أن بيع الإمام الغنائم قبل القسمة جائز فيكون المراد بالنهي بيع الرجل سهمه. وذكر عن الشعبي - رحمة الله عليه - في الرجل يشتري الجارية من المغنم ثم يجد بها داء قال: يردها وبه نأخذ فإن المشتري يستحق بمطلق العقد سلامة المعقود عليه سواء اشتراه من الغنيمة أو من المالك فإذا لم يسلم له ذلك ردها بالعيب فإن كانت الغنيمة لم تقسم رد عليه ثمنها وإن كانت قد قسمت بيعت الجارية مع بيان عيبها ويعطى الأول ثمنها من الثمن الثاني فإن فضل شيء منه جعل في بيت المال وإن نقص الثمن الثاني عن الثمن الأول فذلك على بيت المال أيضاً ثم ذكر باباً في كيفية الرد بالعيب وقد بينا ذلك فيما أملينا من شرح الزيادات والله أعلم بالصواب.
|