الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **
فإذا أخذ المسلم أسيراً من المشركين وطلب الأسير منه الأمان فأمنه فهو آمن لا يحل له ولا للأمير ولا لغيره أن يقتله لأن أمان الواحد من المسلمين نافذ على الجماعة. فكأن الأمير هو الذي أمنه ولكنه يكون فيئاً لأنه مقهور مأخوذ. وقد ثبت فيه حق المسلمين فلا يبطل بأمان الواحد الحق الثابت لجماعتهم. وأمناً من القتل بسبب الأمان لا يكون فوق أمانه من القتل بالإسلام. ولو أسلم بعد ما أسر لم يقتل ولكن يكون فيئاً. فكذلك إذا أمنه بعد الأسر. وهذا لأنه صار بمنزلة الرقيق وإن لم يتعين مالكه ما لم يقسم. وإسلام الرقيق لا يزيل الرق عنه. ثم الدليل على أن إسلامه بعد الأخذ لا يبطل الحق الثابت فيه للمسلمين حديث العباس رضي الله عنه. فإنه أسلم يوم بدر بعد ما أسر. وحسن إسلامه على ما روي أن المسلمين قالوا فيما بينهم: قد قتلنا الرجال وأسرناهم فنتبع العير الآن. فلما عزموا على ذلك قال العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في وثاق الأسر: هذا لا يصلح. قال: لم قال: لأن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين. وقد أنجزها لك فارجع سالماً. فهذا دليل على حسن إسلامه في ذلك الوقت. ومع ذلك أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفداء. وفيه نزل قوله تعالى: فللأمام أن لا يعطيه ذلك ويقتله لأنه صار مأخوذاً مقهوراً. وقد بينا أنه لا يفترض الإجابة إلى إعطاء الذمة في حق مثله. فإن كان حين أخذه المسلمون خافوا أن يسلم فكعموه. أي: سدوا فمه والكعام اسم لما يسد به الفم أو ضربوه حتى يشتغل بالضرب فلا يسلم فقد أساءوا في ذلك لأن فعلهم في صورة المنع عن الإسلام لمن يريد الإسلام وذلك لا رخصة فيه. ولكنهم إن كعموه كي لا ينفلت ولم يريدوا به أن يمنعوه من الإسلام فهذا لا بأس به لقوله تعالى: قلنا: لفعلهم ذلك تأويلان: أحدهما: أنهم علموا أنه لا يسلم حقيقة ولكن يظهر الإسلام تقية لينجو من القتل. فلا يكون ذلك رضاً منهم بكفره. والثاني: أن مقصودهم من ذلك الانتقام منه والتشديد عليه لكثر ما آذاهم لا على وجه الرضا بكفره. ومن تأمل قوله تعالى يتضح له هذا المعنى. وأيد هذا ما روي أن عثمان رضي الله عنه جاء بعبد الله بن سعيد بن أبي سرح يوم فتح مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: بايع عبد الله فأعرض عنه. حتى جاء إلى كل جانب هكذا فقال: بايعناه فلينصرف. فلما انصرف قال لأصحابه: أما كان فيكم من يقوم إليه فيضرب عنقه قبل أن أبايعه فقالوا: أهلا أو مأت إلينا بعينك يا رسول الله فقال: ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين. وأحد لا يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرضى بكفره ولكن علم أنه كان يظهر في ذلك تقية. فلهذا أعرض عنه وقال ما قال. ولو أن الأسير قال للمسلم حين أراد قتله: الأمان الأمان. فقال له المسلم: الأمان الأمان. وإنما أراد رد كلامه على وجه التغليظ عليه ولكنه لم يرد على هذا فهذا في حقه حلال الدم لا بأس بأن يقتله. ولكن من سمع منه هذه المقالة يمنعه من قتله ولا يصدقه فيما ادعى من مراده لأن سياق كلامه من حيث الظاهر أمان. ولكنه محتمل لما أراد. إلا أن ذلك في ضميره فلا يقف عليه غيره. فأما الأمير والناس يتبعون الظاهر فلا يمكنونه من قتله بعد ما أمنه. وفيما بينه وبين ربه هو في سعة من قتله لأن الله مطلع على ضميره. ولو كان قال له المسلم: الأمان الأمان تطلب أو قال: لا تعجل حتى تنظر ما تلقى. فهذا لا يكون أماناً. و لا بأس بقتله له ولغيره لأن في سياق كلامه تنصيصاً على معنى التهديد وسياق النظم دليل على ترك الحقيقة. ألا ترى إلى قوله تعالى: أنه زجر وتوبيخ لا تخيير باعتبار سياق الكلام وكذلك قوله تعالى: إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } تهديد وليس بأمر. وكذلك إذا قال الرجل لغيره: افعل في مالي ما شئت إن كنت رجلاً أو افعل به ما شئت إن كنت صادقاً لا يكون إذناً بل يكون زجراً وتقريعاً. فكذلك هاهنا إذا قال المسلم: الأمان ستعلم أؤمنك أو لا تعلم أنه أراد رد كلامه. وإذا قال: الأمان وسكت لا يعلم ما في ضميره فجعل ذلك أماناً باعتبار الظاهر بمنزلة من يقول لغيره: افعل في مالي كذا وكذا يكون إذناً وإن قال: أردت به التهديد لم يدن في القضاء. ولو أن المشرك نادى من الحصن قبل أن يظفر به: الأمان الأمان. فقال له المسلم: الأمان الأمان. فرمى بنفسه إلى المسلمين فقال الذي أمنه: إنما أردت التهديد لا يلفت إلى كلامه وخلي سبيله. سواء كان الأمير قال له ذلك أو غيره لأن ما في ضميره لا يعرفه المشرك فلو اعتبر ذلك أدى إلى الغرور وهذا حرام وبهذا فارق الأسير لأنه صار مقهوراً مأخوذاً فلا يتحقق معنى الغرور بينه وبين المسلم فيعتبر ما في ضميره في حقه خاصة. ولو كان المسلم قال للمحصور: الأمان الأمان ما أبعدك عن ذلك! أو انزل إن كنت رجلاً. فأسمعه الكلام كله بلسانه فرمى المشرك بنفسه فهو فيء يجوز قتله لأنه لم يغره في شيء فقد أسمعه ما هدده به وبين له أن كلامه تهديد وليس بإعطاء الأمان ألا ترى أن الرجل يقول لآخر: لي عليكم ألف درهم فيقول الآخر: لك علي ألف درهم ما أبعدك من ذلك! فإنه لا يكون كلامه إقراراً لهذا المعنى. فأما إذا سمعه ذكر الأمان ولم يسمعه ما وصل به فهو آمن لا يعتبر في حقه ما أسمعه دون ما لم يسمعه. وما لم يسمعه هو بمنزلة ما في ضميره لو اعتبر أدى إلى الغرور والغرور حرام والله أعلم. ممن يدخل دار الحرب والأسرى وما لا يكون أماناً ولو أن رهطاً من المسلمين أتوا أول مسالح أهل الحرب فقالوا: نحن رسل الخليفة وأخرجوا كتاباً يشبه كتاب الخليفة أو لم يخرجوا وكان ذلك خديعة منهم للمشركين فقالوا لهم: ادخلوا فدخلوا دار الحرب فليس يحل لهم قتل أحد من أهل الحرب ولا أخذ شيء من أموالهم ما داموا في دارهم لأن ما أظهروه لو كان حقاً كانوا في أمان من أهل الحرب وأهل الحرب في أمان منهم أيضاً لا يحل لهم أن يتعرضوا لهم بشيء هو الحكم في الرسل إذا دخلوا إليهم كما بينا. فكذلك إذا أظهروا ذلك من أنفسهم لأنه لا طريق لهم إلى الوقوف على ما في باطن الداخلين حقيقة وإنما يبنى الحكم على ما يظهرون لوجب التحرز عن الغدر وهذا لما بينا أن أمر الأمان شديد والقليل منه يكفي فيجعل ما أظهروه بمنزلة الاستئمان منهم. ولو استأمنوا فأمنوهم وجب عليهم أن يفوا لهم. فكذلك إذا ظهر ما هو دليل الاستئمان. وكذلك لو قالوا: جئنا نريد التجارة. وقد كان قصدهم أن يغتالوهم لأنهم لو كانوا تجاراً حقيقة كما أظهروا لم يحل لهم أن يغدروا بأهل الحرب فكذلك إذا أظهروا ذلك لهم. وكذلك لو لقوهم في وسط دار الحرب إلا أن ما كانوا أخذوا قبل أن يلقوهم فهو سالم لهم ولا يحل أن يتعرضوا لشيء بعد ذلك لأنهم حين خلوا سبيلهم بناء على ما أظهروا فكأنهم أمنوهم الآن. وذاك يحرم عليهم التعرض لهم في المستقبل ولا يلزمهم رد شيء مما أصابوا قبل ذلك. ولو كانوا تشبهوا بالروم ولبسوا لباسهم فلما قالوا لهم: من أنتم قالوا: نحن قوم من الروم كنا في دار الإسلام بأمان. وانتسبوا لهم إلى من يعرفونه من أهل الحرب أو لم ينتسبوا فخلوا سبيلهم. ولا بأس بأن يقتلوا من يقدرون عليه منهم ويأخذوا الأموال لأن ما أظهروا لو كان حقيقة لم يكن بينهم وبين أهل الحرب أمان. فإن بعضهم ليس في أمان من بعض حتى لو استولى عليه أو على ماله بملكه وإذا أسلم عليه كان سالماً له. يوضحه أنهم ما خلوا سبيلهم بناء على استئمان منهم صورة أو معنى وإنما خلوا سبيلهم على بناء أنهم منهم. فهذا وقولهم: نحن منكم سواء. وكذلك لو أخبروهم أنهم قوم من أهل الذمة أتوهم ناقضين للعهد مع المسلمين فأذنوا لهم في الدخول فهذا والأول سواء لأنهم خلوا سبيلهم على أنهم منهم وأن الدار تجمعهم والإنسان في دار نفسه لا يكون مستأمناً. واستدل عليه بحديث عبد الله بن أنيس المتخصر في الجنة حين قال لسفيان بن عبد الله: جئت لأنصرك وأكثرك وأكون معك ثم قتله فدل أن مثل هذا لا يكون أماناً. وقد بينا تفسير المتخصر فيما سبق. ومما يبين ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خير العاملين في الدنيا بعد الأنبياء والمرسلين المتخصرون " يعني الذين يعملون في الدنيا من الطاعات ما يعتمدون عليها في ولو أن رهطاً من المسلمين كانوا أسراء في أيديهم فخلوا سبيلهم لم أر بأساً أن يقتلوا من أحبوا منهم ويأخذوا الأموال ويهربوا إن قدروا على ذلك لأنهم كانوا مقهورين في أيديهم وقبل أن يخلوا سبيلهم لو قدروا على شيء من ذلك كانوا متمكنين منه. فكذلك بعد تخلية سبيلهم. لأنهم ما أظهروا من أنفسهم ما يكون دليل الاستئمان وما خلوهم على سبيل إعطاء الأمان بل على وجه قلة المبالاة بهم والالتفات إليهم. وكذلك لو قالوا لهم: قد أمناكم فاذهبوا حيث شئتم. ولم تقل الأسراء شيئاً لأنه إنما يحرم عليهم التعرض لهم بالاستئمان صورة أو معنى فيه يلتزمون الوفاء ولم يوجد منهم ذلك. وقول أهل الحرب لا يلزمهم شيئاً لم يلتزموه. بخلاف ما إذا جاءوا من دار الإسلام فقال لهم أهل الحرب: ادخلوا فأنتم آمنون لأن هناك جاءوا عن اختيار مجيء المستأمنين فإنهم حين ظهروا لأهل الحرب في موضع لا يكونون ممتنعين منهم بالقوة. فكأنهم استأمنوهم وإن لم يتكلموا به. وما الأسراء فحصلوا في دراهم مقهورين لا عن اختيار منهم فلا بد للاستئمان من قول أو فعل يدل عليه. ولو أن قوماً منهم لقوا الأسراء فقالوا: من أنتم فقالوا: نحن قوم تجار دخلنا بأمان أصحابكم أو قالوا: نحن رسل الخليفة فليس ينبغي لهم بعد هذا أن يقتلوا أحداً منهم لأنهم أظهروا ما هو دليل الاستئمان. فيجعل ذلك استئماناً منهم فلا يحل لهم أن يغدروا بهم بعد ذلك. ما لم يتعرض لهم أهل الحرب. فإن علم أهل الحرب أنهم أسراء فأخذوهم ثم انفلتوا منهم حل لهم قتالهم وأخذ أموالهم لأن حكم الاستئمان إليهم يرتفع بما فعلوا. ألا ترى أن المستأمنين لو غدر بهم ملك أهل الحرب فأخذ أموالهم وحبسهم ثم انفلتوا حل لهم قتل أهل الحرب وأخذ أموالهم باعتبار أن ذلك نقض للعهد من ملكهم. وكذلك لو فعل ذلك بهم رجل بأمر ملكه أو بعلمه ولم يمنعه من ذلك. فإن السفيه إذا لم ينه مأمور. فأما إذا فعلوا بغير علم الأمير أو علم جماعتهم لم يحل للمستأمنين أن يستحلوا حريم القوم بما صنع هذا بهم لأن فعل الواحد من عرضهم لا يكون نقضاً للعهد بينهم وبين المستأمن فإنه لا يملك ذلك وإنما هذا ظلم منه إياهم فيحل لهم أن ينتصفوا منه باسترداد عين ما أخذ منهم أو مثله إن قدروا على ذلك. ولا يحل لهم أن يتعرضوا له بشيء سوى هذا لأن الظالم لا يظلم ولكن ينتصف منه بالمثل فقط. ولو كان الأسراء قالوا لهم حين أخذوهم: نحن قوم منكم: فخلوا سبيلهم. حل لهم قتلهم وأخذ أموالهم. لما بينا أن ما أظهروا ليس باستئمان. وكذلك لو كانوا أسلموا في دار الحرب فهم بمنزلة الأسراء في جميع ما ذكرنا لأن حصولهم في دار الحرب لم يكن على وجه الاستئمان. ولو كان الذين لقيهم أهل الحرب من المسلمين قالوا: نحن قوم من برجان جئنا من أرض الإسلام بالأمان. أمننا بعض مسالحكم لنلحق ببلادنا. فخلوا سبيلهم لم يحل لهم أن يعرضوا بعد هذا لأحد منهم. وبرجان هذا اسم ناحية وراء الروم بين أهلها وبين أهل الروم عداوة ظاهرة. ولا يتمكن بعضهم من الدخول على بعض إلا بالاستئمان فما أظهروا بمنزلة الاستئمان. ألا ترى أن ذلك لو كان حقاً لم يحل لهم أن يتعرضوا لهم فكذلك إذا أظهروا ذلك من أنفسهم. ما لم يرجعوا إلى بلاد المسلمين. فإن رجعوا فقد انتهى حكم ذلك الاستئمان وإذا دخلوا دارهم بعد ذلك حل لهم أن يصنعوا بهم ما قدروا عليه لأنهم الآن بمنزلة المتلصصين فيهم سواء علموا برجوعهم أو لم يعلموا لأن رجوعهم إنما يخفى على أهل الحرب لتقصير منهم في حفظ حريمهم بخلاف الوقوف على حقيقة الحال فيما سبق. ولو أن المسلمين أخذوا أسراء من أهل الحرب فأرادوا قتلهم. فقال رجل منهم: أنا مسلم. فلا ينبغي لهم أن يقتلوه حتى يسألوه عن الإسلام. لا لأنه سيصير مسلماً بهذا اللفظ ولكن بظاهر قوله تعالى: ولأن تكلم بكلام مبهم فيستفسر. وليس من الاحتياط المبادرة إلى قتله قبل الاستفسار. فإن وصف الإسلام حين سألوه عنه فهو مسلم لا يحل قتله. وهو فيء إلا أن يعلم أنه كان مسلماً قبل ذلك لأن هذا منه ابتداء الإسلام لما لم يعرف إسلامه قبل هذا. وذاك يؤمنه من القتل دون الاسترقاق. فإن كان عليه سيماء المسلمين وأكبر الظن من المسلمين أنه كان مسلماً فهذا بمنزلة العلم بإسلامه حتى يجب تخلية سبيله لأن أكبر الرأي بمنزلة اليقين فيما بني أمره على الاحتياط وفيما يتعذر الوقوف فيه على حقيقة الحال. ولو قال: لست بمسلم ولكن ادعوني إلى الإسلام حتى أسلم لم يحل قتله أيضاً لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " فادعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله " فكان لا يقاتل قوماً حتى يدعوهم. ولو أردنا قتال قوم لم تبلغهم الدعوة لا ينبغي لنا أن نقاتلهم حتى ندعوهم. وربما يجيبون وربما يمتنعون. فهذا الذي طلب منا أن ندعوه وأظهر من نفسه الإجابة إلى ذلك أولى أن لا يحل قتله قبل الدعاء إلى الإسلام. ولو قال: أنا مسلم. فاستوصف الإسلام فأبى أن يصفه فإنه ينبغي للمسلمين أن يصفوا الإسلام ثم يقولون له: أنت على هذا فإن قال: نعم فهو مسلم وإن قال: لست على هذا أو قال: ما أعرف هذا الذي تقولون فهو حلال الدم. إلا أن الأولى أن يقول له الإمام: أتدخل في هذا الذي دعوناك إليه فإن قال: نعم لم نقتله وكان فيئاً. وإن قال: لا فحينئذ يضرب عنقه. وبهذا الفصل يتبين الجواب في مسألة الزوجة والجارية أنه إذا استوصفها الإسلام فلم تحسن أن تصفه ينبغي له أن يصف الإسلام بين يديها ويقول: أنا على هذا وظني بك أنك على هذا فإن قالت: نعم. فذلك يكفي وتكون مسلمة يحل له وطئها بالنكاح والملك.
ولو أن رسول ملك أهل الحرب جاء إلى عسكر المسلمين فهو آمن حتى يبلغ رسالته بمنزلة مستأمن جاء للتجارة لأن في مجيء كل واحد منهما منفعة للمسلمين. فإن أرادا الرجوع فخاف الأمير أن يكونا قد رأيا للمسلمين عورة فيدلان عليها العدو فلا بأس بأن يحبسهما عنده حتى يأمن من ذلك لأن في حبسهما نظراً للمسلمين ودفع الفتنة عنهم. وإذا جاز حبس الداعر لدفع فتنته وإن لم نتحقق منه خيانة فلأن يجوز حبس هذين أولى. فإن قالا للإمام: خل سبيلنا وإنا عندك بأمان. لم ينبغ له أن يخلي سبيلهما لأن الظاهر أنهما يدلان العدو على ما رأيا من العورة. فإن اعتقادهما يحملهما على ذلك. وأيد هذا الظاهر قوله تعالى: لم يصدقهما في ذلك لأن اليمني إنما تكون حجة لمن شهد الظاهر له والظاهر هنا يشهد بخلاف ما يقولان فلا يلتفت إلى يمينهما وأيد هذا قوله تعالى: وهذه اليمين بهذه الصفة فلا يجوز للإمام أن يعتمدها ولكنه يحبسهما عنده حتى يأمن. إلا أنه ينبغي له أن يقيدهما ولا أن يفلهما لأن فيه تعذيباً لهما وهما في أمان منه فلا يكون له أن يعذبهما ما لم يتحقق منهما خيانة فإن قيل: ففي الحبس تعذيب أيضاً. قلنا: لا نعني بقولنا يحبسهما الحبس في السجن. فإن ذلك تعذيب. وإنما نعني به أن يمنعهما من الرجوع ويجعل معهما حرساً يحرسونهما وليس في هذا القدر تعذيب لهما بل فيه نظل للمسلمين ولئن كان فيه نوع تعذيب من حيث الحيلولة بينهما وبين وطنهما فالمقصود دفع ضرر هو أعظم من ذلك وإذا لم نجد بداً من إيصال الضرر إلى بعض الناس ترجح أهون الضررين على أعظمهما. ثم هذا المقصود يحصل بحرس يجعله معهما. فليس له أن يعذبهما فوق ذلك بالتقييد. فإن حضر قتال وشغل عنهما الحرس وخاف انفلاتهما فلا بأس بأن يقيدهما حتى يذهب ذلك الشغل لأن هذا موضع الضرر فإذا ذهب ذلك الشغل حل قيودهما لأن الثابت بالضرورة يتقدر بقدرها. وإن سار الإمام راجعاً إلى دار الإسلام فله أن يذهب بهما معه حتى يبلغ الموضع الذي يأمن فيه مما يخاف عنهما ثم يخلى سبيلهما لأن النظر للمسلمين دفع الفتنة عنهم في ذلك. فإن لم يأمن منهم حتى يدخل أرض الإسلام لم يخل سبيلهم حتى يدخل أرض الإسلام لأن الفتنة في تخلية بيلهما في دار الحرب تعظم عسى وعلى الإمام أن يتحرز ويجتهد لدفع ذلك عن نفسه وعن العسكر. فإن أبيا أن يبرحا مكانها أكرههما على ذلك لأن في موضع النظر للإمام ولاية الإكراه. ألا ترى أنه إذا وقع النفير عاماً كان له أن يجبر الناس على الخروج وفي نظيره قال عمر رضي الله عنه: " لو تركتم لبعتم أولادكم ". فإن وصل إلى مأمنه من دار الإسلام ثم أمرهما بالإنصراف فسألاه أن يعطيهما مالاً يتجهزان به إلى بلادهما فإنه ينبغي له أن يعطيهما من النفقة ما يبلغهم إلى المكان الذي أبيا أن يصحباه منه لأنه جاء بهما مكروهين من ذلك الموضع فعليه أن يردهما إليه. وكان ذلك منه نظراً للمسلمين فتكون تلك المؤنة من بيت مال المسلمين بمنزلة نائبة تنوب المسلمين. وفيما يجاوز ذلك قد أتيا اختباراً منها فلا يعطيهما للرجوع نفقة وإنما يعطى هذه النفقة من بيت المال إذا لم تصب الجند غنيمة أو أصابوا واقتسموها. فأما إذا أصابوا غنيمة ولم تقسم بعد فإنه يعطيها النفقة من تلك الغنيمة لأنه أكرههما على ذلك نظراً منه للجند خاصة. فتكون المؤنة من مال هو حق للجند بمنزلة ما لو استأجر لحمل الغنائم أو سوقها أو حفظها. وكذلك إذا منعهما من الرجوع وأكرههما على المقام معه. فإنه ينبغي أن ينفق عليهما من غنائم المسلمين. وإذا حملهما من ذلك الموضع مع نفسه على الدواب من غنائم المسلمين لأنهما آمنان عنده والتحرز عن الغدر واجب فإذا حبسهما لمنفعة الغانمين أنفق عليهما من أموالهم بمنزلة العامل على الصدقات يعطى الكفاية من مال الصدقة. والمرأة إذا كنت محبوسة عند الزوج لحقه استوجبت النفقة عليه. فإن أراد تخلية سبيلهما بعد ما أمن وكان هو في موضع يخافان فيه فينبغي له أن ينظر لهما ولا يخلي سبيلهما إلا في موضع لا يخاف عليهما فيه لأنهما تحت ولايته وفي أمانه وهو مأمور بدفع الظلم عنهما. فكلما ينظر للمسلمين بما يزيل الخوف عنهم فكذلك ينظر لهما. أرأيت لو حملهما معه في البحر فلما انتهى إلى جزيرة أمن فيها أينبغي له أن يتركهما في تلك الجزيرة لا ولكن يحملهما إلى موضع لا يخاف عليهما فيه الضيعة ثم يعطيهما ما يكفيهما لجهازهم وحملاتهما. وإن كانا لا يأمنان من اللصوص فينبغي له أن يرسل معهما قوماً يبلغونهما مأمنهما لأن ذلك على الإمام ولكنه ربما لا يقدر على مباشرته بنفسه فيستعين عليه بقوم من المسلمين. فإن كانا لا يبلغان مأمنهما حتى يبلغا موضعاً يخاف فيه الذين أرسلوا معهما فإنه ينبغي أن يرسل معهما إلى أبعد موضع يأمن فيه أهل الإسلام ثم يخلى سبيلهما. ليس عليه غير ذلك لأن فيما وراء ذلك تعريض المسلمين للهلاك وذلك لا يحل له لدفع الخوف عن المشركين ثم إن أجبر المسلمين على أن يذهبوا معهما إلى الموضع الذي يخافون فيه فقتلوا كان هو الساعي في دمهم وإن تركهما ليذهبا فأصيبا لم يكن هو ساعياً في دمهما. فكان هذا أهون الأمرين والله أعلم.
|