الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار **
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: أنا ثالث الشريكين، ما لم يَخُن أحدهما صاحبه. فإن خانه خرجت من بينهما) رواه أبو داود. يدل هذا الحديث بعمومه على جواز أنواع الشركات كلها: شركة العنان، والأبدان، والوجوه، والمضاربة، والمفاوضة وغيرها من أنواع الشركات التي يتفق عليها المتشاركان. ومن منع شيئاً منها فعليه الدليل الدال على المنع، وإلا فالأصل الجواز، لهذا الحديث، وشموله. ولأن الأصل الجواز في كل المعاملات. ويدل الحديث على فضل الشركات وبركتها، إذا بنيت على الصدق والأمانة. فإن من كان الله معه بارك له في رزقه، ويسر له الأسباب التي ينال بها الرزق، رزقه من حيث لا يحتسب، وأعانه وسدده. وذلك: لأن الشركات يحصل فيها التعاون بين الشركاء في رأيهم وفي أعمالهم. وقد تكون أعمالاً لا يقدر عليها كل واحد بمفرده، وباجتماع الأعمال والأموال يمكن إدراكها. والشركات أيضاً يمكن تفريعها وتوسيعها في المكان والأعمال وغيرها. وأيضاً: فإن الغالب أنها يحصل بها من الراحة ما لا يحصل بتفرد الإنسان بعلمه. وقد يجري ويدير أحدهما العمل مع راحة الآخر، أو ذهابه لبعض مهماته، أو وقت مرضه. وهذا كله مع الصدق والأمانة. فإذا دخلتها الخيانة ونوى أحدهما أو كلاهما خيانة الآخر، وإخفاء ما يتمكن منه خرج الله من بينهما. وذهبت البركة. ولم تتيسر الأسباب. والتجربة والمشاهدة تشهد لهذا الحديث. والله أعلم. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) رواه مسلم. دار الدنيا جعلها الله دار عمل، يتزود منها العباد من الخير، أو الشر، للدار الأخرى، وهي دار الجزاء. وسيندم المفرطون إذا انتقلوا من هذه الدار، ولم يتزودوا منها لآخرتهم ما يسعدهم، وحينئذ لا يمكن الاستدراك. ولا يتمكن العبد أن يزيد حسناته مثقال ذرة، ولا يمحو من سيئاته كذلك. وانقطع عمل العبد عنه إلا هذه الأعمال الثلاثة التي هي من آثار عمله. الأول – الصدقة الجارية: أي: المستمر نفعها. وذلك كالوقف للعقارات التي ينتفع بمغلِّها، أو الأواني التي ينتفع باستعمالها، أو الحيوانات التي ينتفع بركوبها ومنافعها، أو الكتب والمصاحف التي ينتفع باستعمالها والانتفاع بها، أو المساجد والمدارس والبيوت وغيرها التي ينتفع بها. فكلها أجرها جارٍ على العبد ما دام ينتفع بشيء منها. وهذا من أعظم فضائل الوقف. وخصوصاً الأوقاف التي فيها الإعانة على الأمور الدينية، كالعلم والجهاد، والتفرغ للعبادة، ونحو ذلك. ولهذا اشترط العلماء في الوقف: أن يكون مصرفه على جهة بر وقربة. الثاني – العلم الذي ينتفع به من بعده: كالعلم الذي علمه الطلبة المستعدين للعلم، والعلم الذي نشره بين الناس، والكتب التي صنفها في أصناف العلوم النافعة. وهكذا كل ما تسلسل الانتفاع بتعليمه مباشرة، أو كتابة، فإن أجره جار عليه. فكم من علماء هداة ماتوا من مئات من السنين، وكتبهم مستعملة، وتلاميذهم قد تسلسل خيرهم. وذلك فضل الله. الثالث – الولد الصالح: ولد صلب، أو ولد ابن، أو بنت، ذكر أو أنثى – ينتفع والده بصلاحه ودعائه. فهو في كل وقت يدعو لوالديه بالمغفرة والرحمة، ورفع الدرجات، وحصول المثوبات. وهذه المذكورة في هذا الحديث هي مضمون قوله تعالى: فما قدموا: هو ما باشروه من الأعمال الحسنة أو السيئة. وآثارهم ما ترتب على أعمالهم، مما عمله غيرهم، أو انتفع به غيرهم. وجميع ما يصل إلى العبد من آثار عمله ثلاثة: الأول: أمور عمل بها الغير بسببه وبدعايته وتوجيهه. الثاني: أمور انتفع بها الغير أيّ نفع كان، على حسب ذلك النفع باقتدائه به في الخير. الثالث: أمور عملها الغير وأهداها إليه، أو صدقة تصدق بها عنه أو دعا له، سواء أكان من أولاده الحسيين أو من أولاده الروحيين الذين تخرجوا بتعليمه، وهدايته وإرشاده، أو من أقاربه وأصحابه المحبين، أو من عموم المسلمين، بحسب مقاماته في الدين، وبحسب ما أوصل إلى العباد من الخير، أو تسبب به. وبحسب ما جعل الله له في قلوب العباد من الود الذي لا بد أن تترتب عليه آثاره الكثيرة التي منها: دعاؤهم، واستغفارهم له. وكلها تدخل في هذا الحديث الشريف. وقد يجتمع للعبد في شيء واحد عدة منافع. كالولد الصالح العالم الذي سعى أبوه في تعليمه، وكالكتب التي يقفها أو يهبها لمن ينتفع بها. ويستدل بهذا الحديث على الترغيب في التزوج الذي من ثمراته حصول الأولاد الصالحين، وغيرها من المصالح، كصلاح الزوجة وتعليمها ما تنتفع به، وتنفع غيرها. والله أعلم. عن أسمر بن مضرس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له) رواه أبو داود. يدخل في هذا الحديث: السبق إلى جميع المباحات التي ليست ملكاً لأحد، ولا باختصاص أحد. فيدخل فيه: السبق إلى إحياء الأرض الموات. فمن سبق إليها باستخراج ماء، أو إجرائه عليها، أو ببناء: مَلَكها. ولا يملكها بدون الإحياء. لكن لو أقطعه الإمام أو نائبه، أو تحجر مواتاً من دون إحيائه: فهو أحق به، ولا يملكه. فإن وجد متشوف للإحياء قيل له: إما أن تعمرها، وإما أن ترفع يدك عنها. ويدخل في ذلك: السبق إلى صيد البر، والبحر، وإلى المعادن غير الظاهرة، وغير الجارية. والسبق إلى أخذ حطب أو حشيش أو منبوذ رغبة عنه. والسبق إلى الجلوس في المساجد والمدارس والأسواق والرُّبُط إن لم يتوقف ذلك على ناظر جعل له الترتيب والتعيين، فيرجع فيه إلى نص الواقفين والموصين. فمن سبق إلى شيء من المباحات التي لا مالك لها: فهو أحق بها. والملك فيها مقصور على القدر المأخوذ. وكذلك من سبق إلى الأعمال في الجعالات التي يقول فيها صاحبها: من عمل لي هذا العمل فله كذا: فهو المستحق للتقديم والجعل. وكذلك من سبق إلى التقاط اللقطة واللقيط، وغيرها فكله داخل في هذا الحديث. والله أعلم. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألحَقوا الفرائض بأهلها. فما بقى فهو لأوْلى رجل ذكر) متفق عليه. عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقَّه، فلا وصية لوارث) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة. هذان الحديثان اشتملا على جلّ أحكام المواريث، وأحكام الوصايا فإن الله تعالى فصَّل أحكام المواريث تفصيلاً تاماً واضحاً، وأعطى كل ذي حق حقه. وأمر صلى الله عليه وسلم أن يلحق الفرائض بأهلها، فيقدمون على العصبات. فما بقي فهو لأوْلى رجل ذكر. وهم العصبة من الفروع الذكور، والأصول الذكور، وفروع الأصول الذكور، والولاء. فيقدم من هذه الجهات إذا اجتمع عاصبان فأكثر: الأقرب جهة. فإن كانوا في جهة واحدة قدم الأقرب منزلة. فيقدم الابن على ابن الابن، والعم مثلاً على ابن العم. فإن كانوا في منزلة واحدة، وتميز أحدهم بقوة القرابة ولا يتصور ذلك إلا في فروع الأصول، كالإخوة والأعمام مطلقاً وبنيهم: قدم الأقوى – وهو الشقيق- على الذي لأب. وهذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: (لأولى رجل ذكر) أي: أقربهم جهة، أو منزلة، أو قوة، على حسب هذا الترتيب. وعلم من هذا: أن صاحب الفرض مقدم على العاصب في البداءة، وأنه إن استغرقت الفروض التركة سقط العاصب في جميع مسائل الفرائض، حتى في الحِمَارِيَّة، وهي ما إذا خَلَّفت زوجاً، وأُمَّاً، وإخوة لأم وإخوة أشقاء: فللزوج النصف، وللأم السدس؛ وللإخوة لأم الثلث. فهؤلاء أهل فروض ألحقنا بهم فروضهم، وسقط الأشقاء؛ لأنهم عصبات. وهذا هو الصحيح لأدلة كثيرة. هذا أوضحها. ويستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: (ألحقوا الفرائض بأهلها) على أن الفروض إذا كثرة تزاحمت ولم يحجب بعضها بعضاً، فإنه يعول لهم، وتنقص فروضهم بحسب ما عالت به كالديون إذا أدلت على موجودات الغريم التي لا تكفي لدينهم؛ فإنهم يعطون بقدر ديونهم وهذا من العدل. فكل مشتركين في استحقاق شيء لا يمكن أن يكمل لكل واحد منهم، وليس لواحد منهم مزية تقديم: فإنهم ينقصون على قدر استحقاقهم، وذلك في الهبات والوصايا والأوقاف وغيرها، كما أن الزائد لهم بقدر أملاكهم واستحقاقهم. ويدل الحديث أنه إذا لم يوجد صاحب فرض، فالمال كله للعصبات على حسب الترتيب السابق. وكذلك يدلّ على أنه إذا لم يوجد إلا أصحاب الفروض، ولم يوجد عاصب، فإنه يرد عليهم على قدر فروضهم، كما تعالى عليهم؛ لأن من حكمة فرض الفروض وتقديرها: أن تبقى البقية للعاصب. فإذا لم يوجد رُدَّ على المستحقين لعدم المزاحم. ويدل الحديث على صحة الوصية لغير الوارث. ولكن في ذلك تفصيل: إن كان الموصي غنياً ويدع ورثته أغنياء، استحبت. وإن كان فقيراً وورثته يحتاجون جميع ميراثه، لفقرهم أو كثرتهم: فالأولى له أن لا يوصى، بل يدع ماله لورثته. وأما الوصية للوارث: فالحديث دلّ على منعها. وعلل ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث). فمن أوصى لوارث فقد تعدى حدود الله، وفضل بعض الورثة على بعض. وسواء وقع ذلك على وجه الوصية أو الهبة للوارث، كما هو اتفاق العلماء، أو على وجه الوقف لثلثه على بعض ورثته. وشذ بعضهم في هذه المسألة، فأجازها. وهو منافٍ للفظ الحديث ومعناه. وأما الوصية للأجنبي، أو للجهات الدينية، فتجوز بالثلث فأقل. وما زاد على الثلث: يتوقف على إجازة الورثة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثةٌ حقٌّ على الله عَوْنُهم: المُكاتب يريد الأداء، والمتزوج يريد العَفاف، والمجاهد في سبيل الله) رواه أهل السنن إلا النسائي. وذلك: أن الله تعالى وعد المنفقين بالخلف العاجل، وأطلق النفقة. وهي تنصرف إلى النفقات التي يحبها الله؛ لأن وعده بالخلف من باب الثواب الذي لا يكون إلا على ما يحبه الله. وأما النفقات في الأمور التي لا يحبها الله: إما في المعاصي، وإما في الإسراف في المباحات: فالله لم يضمن الخلف لأهلها، بل لا تكون إلا مغرماً. وهذه الثلاثة المذكورة في هذا الحديث من أفضل الأمور التي يحبها الله. فالجهاد في سبيل الله هو سنام الدين وذروته وأعلاه. وسواء كان جهاداً بالسلاح، أو جهاداً بالعلم والحجة. فالنفقة في هذا السبيل مخلوفة وسالكُ هذا السبيل معانٌ من الله، مُيَسَّرٌ له أمرُه. وأما المكاتب: فالكتابة قد أمر الله بها في قوله تعالى: وعلى السيد: أن يرفق بمكاتبه في تقدير الآجال التي تحل فيها نُجُوم الكتابة، ويعطيه من مال الكتابة إذا أدَّاها ربعها. وفي قوله تعالى في حق المكاتبين وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما هو أعمّ من هذا، فقال: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّاها الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) رواه البخاري. وأما النكاح: فقد أمر الله به ورسوله. ورتب عليه من الفوائد شيئاً كثيراً: عون الله، وامتثال أمر الله ورسوله، وأنه من سنن المرسلين. وفيه: تحصين الفرج، وغض البصر، وتحصيل النسل، والإنفاق على الزوجة والأولاد؛ فإن العبد إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له أجراً، وحسنات عند الله، سواء كانت مأكولاً أو مشروباً أو ملبوساً أو مستعملاً في الحوائج كلها. كله خير للعبد، وحسنات جارية. وهو أفضل من نوافل العبادات القاصرة. وفيه: التذكر لنعم الله على العبد، والتفرغ لعبادته، وتعاون الزوجين على مصالح دينهما ودنياهما، وقد قال تعالى: وعلى الزوجة: القيام بحق الله، وحق بَعْلها، وتقديم حق البعل على حقوق الخلق كلهم. وعلى الزوج: السعي في إصلاح زوجته، وفعل جميع الأسباب التي تتم بها الملاءمة بينهما، فإن الملاءمة هي المقصود الأعظم. ولهذا ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النظر إلى المرأة التي يريد خطبتها؛ ليكون على بصيرة من أمره والله أعلم. عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحرُم من الرَّضاعة ما يحرم من الولادة) متفق عليه. وذلك: أن المحرمات من النسب بنص القرآن والإجماع: الأمهات وإن عَلْون من كل جهة، والنبات وإن نزلن من كل جهة، والأخوات مطلقاً، وبنات الأخوة، وبنات الأخوات وإن نزلن، والعمات، والخالات. فجميع القرابات حرام، إلا بنات الأعمام، وبنات العمات، وبنات الأخوال، وبنات الخالات. وهذه السبع محرمات في الرضاع من جهة المرضعة، وصاحب اللبن، إذا كان الرضاع خمس رضعات فأكثر، في الحولين. وأما من جهة أقارب الراضع: فإن التحريم يختص بذرية الراضع. وأما أبوه من النسب وأمه وأصولهم وفروعهم، فلا تعلق لهم بالتحريم. وكذلك يحرم الجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها، أو خالتها في النسب. ومثل ذلك في الرضاع. وكذلك تحرم أمهات الزوجة، وإن علون، وبناتها، وإن نزلن، إذا كان قد دخل بزوجته، وزوجات الآباء، وإن علوا، وزوجات الأبناء وإن نزلوا من كل جهة، ومثل ذلك في الرضاع. ومسائل تحريم الجمع والصهر في الرضاع فيه خلاف. ولكن مذهب جمهور العلماء والأئمة الأربعة، تحريم ذلك للعمومات. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يَفْرِك مؤمنٌ مؤمنةً؛ إن كره منها خُلقاً رضي منها آخر) رواه مسلم. هذا الإرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم ، للزوج في معاشرة زوجته من أكبر الأسباب والدواعي إلى حسن العشرة بالمعروف، فنهى المؤمن عن سوء عشرته لزوجته. والنهي عن الشيء أمر بضده. وأمره أن يلحظ ما فيها من الأخلاق الجميلة، والأمور التي تناسبه، وأن يجعلها في مقابلة ما كره من أخلاقها؛ فإن الزوج إذا تأمل ما في زوجته من الأخلاق الجميلة، والمحاسن التي يحبها، ونظر إلى السبب الذي دعاه إلى التضجر منها وسوء عشرتها، رآه شيئاً واحداً أو اثنين مثلاً، وما فيها مما يحب أكثر. فإذا كان منصفاً غض عن مساوئها لاضمحلالها في محاسنها. وبهذا: تدوم الصحبة، وتؤدّى الحقوق الواجبة والمستحبة وربما أن ما كره منها تسعى بتعديله أو تبديله. وأما من غض عن المحاسن، ولحظ المساوئ ولو كانت قليلة. فهذا من عدم الإنصاف. ولا يكاد يصفو مع زوجته. والناس في هذا ثلاثة أقسام: أعلاهم: من لحظ الأخلاق الجميلة والمحاسن، وغض عن المساوئ بالكلية وتناساها. وأقلهم توفيقاً وإيماناً وأخلاقاً جميلة: من عكس القضية، فأهدر المحاسن مهما كانت، وجعل المساوئ نصب عينيه. وربما مددها وبسطها وفسرها بظنون وتأويلات تجعل القليل كثيراً، كما هو الواقع. والقسم الثالث: من لحظ الأمرين، ووازن بينهما، وعامل الزوجة بمقتضى كل واحد منها. وهذا منصف. ولكنه قد حرم الكمال. وهذا الأدب الذي أرشد إليه صلى الله عليه وسلم ، ينبغي سلوكه واستعماله مع جميع المعاشرين والمعاملين؛ فإن نفعه الديني والدنيوي كثير وصاحبه قد سعى في راحة قلبه. وفي السبب الذي يدرك به القيام بالحقوق الواجبة والمستحبة؛ لأن الكمال في الناس متعذر. وحسب الفاضل أن تعدَّ معايبه. وتوطين النفس على ما يجيء من المعاشرين مما يخالف رغبة الإنسان يسهل عليه حسن الخلق، وفعل المعروف والإحسان مع الناس. والله الموفق. عن عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكِّلت إليها، وإن أوتيتها عن غير مسألة أُعِنْتَ عليها. وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها، فائْتِ الذي هو خير، وكفِّر عن يمينك) متفق عليه. هذا الحديث احتوى على جملتين عظيمتين: إحداهما: أن الإمارة وغيرها من الولايات على الخلق، لا ينبغي للعبد أن يسألها، ويتعرض لها. بل يسأل الله العافية والسلامة، فإنه لا يدري، هل تكون الولاية خيراً له أو شراً؟ ولا يدري، هل يستطيع القيام بها، أم لا؟ فإذا سألها وحرص عليها، وُكِّلَ إلى نفسه. ومتى وُكِّلَ العبد إلى نفسه لم يوفق، ولم يسدد في أموره، ولم يُعَن عليها؛ لأن سؤالها ينبئ عن محذورين: الأول: الحرص على الدنيا والرئاسة، والحرص يحمل على الريبة في التخوض في مال الله، والعلو على عباد الله. الثاني: فيه نوع اتكال على النفس، وانقطاع عن الاستعانة بالله. ولهذا قال: (وكلت إليها). وأما من لم يحرص عليها ولم يتشوف لها، بل أتته من غير مسألة ورأى من نفسه عدم قدرته عليها، فإن الله يعينه عليها، ولا يكله إلى نفسه؛ لأنه لم يتعرض للبلاء، ومن جاءه البلاء بغير اختياره حمل عنه، ووفق للقيام بوظيفته. وفي هذه الحال يقوى توكله على الله تعالى، ومتى قام العبد بالسبب متوكلاً على الله نجح. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (أعنت عليها) دليل على أن الإمارة وغيرها من الولايات الدنيوية جامعة للأمرين، للدين، والدنيا؛ فإن المقصود من الولايات كلها: إصلاح دين الناس ودنياهم. ولهذا: يتعلق بها الأمر والنهي، والإلزام بالواجبات، والردع عن المحرمات، والإلزام بأداء الحقوق. وكذلك أمور السياسة والجهاد، فهي لمن أخلص فيها لله وقام بالواجب من أفضل العبادات، ولمن لم يكن كذلك من أعظم الأخطار. ولهذا كانت من فروض الكفايات؛ لتوقف كثير من الواجبات عليها. فإن قيل: كيف طلب يوسف صلى الله عليه وسلم وِلايةَ الخزائن المالية في قوله: قيل: الجواب عنه قوله تعالى: ولهذا: لما تولى خزائن الأرض سعى في تقوية الزراعة جداً. فلم يبق موضع في الديار المصرية من أقصاها إلى أقصاها يصلح للزراعة إلا زرع في مدة سبع سنين. ثم حصنه وحفظه ذلك الحفظ العجيب. ثم لما جاءت السنون الجدب، واضطر الناس إلى الأرزاق سعى في الكيل للناس بالعدل، فمنع التجار من شراء الطعام خوف التضييق على المحتاجين، وحصل بذلك من المصالح والمنافع شيء لا يعد ولا يحصى، كما هو معروف. الجملة الثانية: قوله صلى الله عليه وسلم: (وإذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيراً منها فائت الذي هو خير، وكفر عن يمينك). يشمل من حلف على ترك واجب، أو ترك مسنون؛ فإنه يكفر عن يمينه، ويفعل ذلك الواجب والمسنون الذي حلف على تركه. ويشمل من حلف على فعل محرم، أو فعل مكروه فإنه يؤمر بترك ذلك المحرم والمكروه، ويكفر عن يمينه. فالأقسام الأربعة داخلة في قوله صلى الله عليه وسلم: (فائت الذي هو خير) لأن فعل المأمور مطلقاً، وترك المنهي مطلقاً: من الخير. وهذا هو معنى قوله تعالى: ويؤخذ من هذا الحديث: أن حفظ اليمين في غير هذه الأمور أولى، لكن إن كانت اليمين على فعل مأمور، أو ترك منهي، لم يكن له أن يحنث. وإن كانت في المباح، خيّر بين الأمرين. وحفظها أولى. واعلم أن الكفَّارة لا تجب إلا في اليمين المنعقدة على مستقبل إذا حلف وحنث. وهي على التخيير بين العتق، أو إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم. فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. وأما اليمين على الأمور الماضية أو لغو اليمين، كقول الإنسان: لا والله، وبلى والله في عرض حديثه: فلا كفارة فيها. والله أعلم. عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه. ومن نذر أن يعص الله فلا يعصه). رواه البخاري. النذر إلزام العبد نفسه طاعة لله: إما بدون سبب، كقوله، لله عليّ أو نذرت عتق رقبة، أو صيام كذا وكذا، أو الصدقة بكذا وكذا. وإما بسبب، كأن يعلق ذلك على قدوم غائبه، أو بُرْء مريض، أو حصول محبوب، أو زوال مكروه، فمتى تمّ له مطلوبه وجب عليه الوفاء. وهذا الحديث شامل للطاعات كلها. فمن نذر طاعة واجبة ومستحبة وجب عليه الوفاء بالنذر، وليس عنه كفارة. بل يتعين الوفاء، كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث. وكما أثنى الله على الموفين بنذرهم في قوله: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} مع أن عقد النذر مكروه، كما نهى صلى الله عليه وسلم عن النذر. وقال: (إنه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل). وأما نذر المعصية، فيتعين على العبد أن يترك معصية الله ولو نذرها. وبقية أقسام النذر، كنذر المعصية، والنذر المباح، ونذر اللجاج، والغضب، حكمها حكم اليمين في الحنث، فيها كفارة يمين لمشاركتها في المعنى لليمين. والله أعلم.
عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم. ويرد عليهم أقصاهم. وهم يَدٌ على من سواهم. ألا، لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عَهْد في عهده) رواه أبو داود والنسائي. ورواه ابن ماجه عن ابن عباس. هذا الحديث كالتفصيل لقوله تعالى: فعلى المؤمنين: أن يكونوا متحابين، متصافين غير متباغضين ولا متعادين. يسعون جميعاً لمصالحهم الكلية التي بها قوام دينهم ودنياهم، لا يتكبر شريف على وضيع، ولا يحتقر أحد منهم أحداً. فدماؤهم تتكافأ؛ فإنه لا يشترط في القصاص إلا المكافأة في الدين. فلا يقتل المسلم بالكافر، كما في هذا الحديث، والمكافأة في الحرية، فلا يقتل الحرب بالعبد. وأما بقية الأوصاف، فالمسلمون كلهم على حد سواء. فمن قتل أو قطع طرفاً متعمداً عدواناً، فلهم أن يقتصوا منه بشرط المماثلة في العضو، لا فرق بين الصغير بالكبير، وبالعكس، والذكر والأنثى وبالعكس، والعالم بالجاهل، والشريف بالوضيع، والكامل بالناقص كالعكس في هذه الأمور. قوله صلى الله عليه وسلم: (ويسعى بذمتهم أدناهم) يعني: أن ذمة المسلمين واحدة. فمتى استجار الكافر بأحد من المسلمين وجب على بقيتهم تأمينه، كما قال تعالى: وقوله صلى الله عليه وسلم: (ويرد عليهم أقصاهم) أي: في التأمين. وكذلك اشتراك الجيوش مع سراياه التي تذهب فتُغِير أو تحرس، فمتى غنم الجيش، أو غنم أحد السرايا التابعة للجيش، اشترك الجميع في المغنم. ولا يختص بها المباشر؛ لأنهم كلهم متعاونون على مهمتهم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (وهم يَدٌ على من سواهم) أي: يجب على جميع المسلمين في جميع أنحاء الأرض أن يكونوا يداً على أعدائهم من الكفار، بالقول والفعل، والمساعدات والمعاونة في الأمور الحربية، والأمور الاقتصادية، والمدافعة بكل وسيلة. فعلى المسلمين: أن يقوموا بهذه الواجبات بحسب استطاعتهم؛ لينصرهم الله ويعزهم، ويدفع عنهم بالقيام بواجبات الإيمان عدوان الأعداء. فنسأله تعالى أن يوفقهم لذلك. وقوله صلى الله عليه وسلم: (ولا ذو عهد في عهده) أي: لا يحل قتل من له عهد من الكفار بذمة أو أمان أو هدنة؛ فإنه لما قال: (لا يقتل مسلم بكافر) احترز بذلك البيان عن تحريم قتل المعاهد؛ لئلا يظن الظان جوازه. والله أعلم. عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من تطبَّب ولم يُعلم منه طِبٌّ، فهو ضامن) رواه أبو داود والنسائي. هذا الحديث يدلّ بلفظه وفحواه على: أنه لا يحل لأحد أن يتعاطى صناعة من الصناعات وهو لا يحسنها، سواء كان طباً أو غيره، وأن من تجرأ على ذلك: فهو آثم. وما ترتب على عمله من تلف نفس أو عضو أو نحوهما: فهو ضامن له. وما أخذه من المال في مقابلة تلك الصناعة التي لا يحسنها: فهو مردود على باذله؛ لأنه لم يبذله إلا بتغريره وإيهامه أنه يحسن، وهو لا يحسن، فيدخل في الغش. و (من غشنا فليس منا). ومثل هذا البنَّاء والنجار والحداد والخراز والنساج ونحوهم ممن نصَب نفسه لذلك، موهماً أنه يحسن الصنعة، وهو كاذب. ومفهوم الحديث: أن الطبيب الحاذق ونحوه إذا باشر ولم تجن يده وترتب على ذلك تلف، فليس بضامن؛ لأنه مأذون فيه، من المكلف أو وليه. فكل ما ترتب على المأذون فيه فهو غير مضمون، وما ترتب على غير ذلك المأذون فيه، فإنه مضمون. ويستدل بهذا على: أن صناعة الطب من العلوم النافعة المطلوبة شرعاً وعقلاً. والله أعلم. عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ادْرَءُوا الحُدودَ عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج، فخلوا سبيله. فإن الإمام أن يخطئ في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة) رواه الترمذي مرفوعاً وموقوفاً. هذا الحديث: يدلّ على أن الحدود تدرأ بالشبهات. فإذا اشتبه أمر الإنسان وأشكل علينا حاله، ووقعت الاحتمالات: هل فعل موجب الحد أم لا؟ وهل هو عالم أو جاهل؟ وهل هو متأول معتقد حلّه أم لا؟ وهل له عذر عقد أو اعتقاد؟: درأت عنه العقوبة؛ لأننا لم نتحقق موجبها يقيناً. ولو تردد الأمر بين الأمرين، فالخطأ في درء العقوبة عن فاعل سببها، أهون من الخطأ في إيقاع العقوبة على من لم يفعل سببها، فإن رحمة الله سبقت غضبه، وشريعته مبنية على اليسر والسهولة. والأصل في دماء المعصومين وأبدانهم وأموالهم التحريم، حتى نتحقق ما يبيح لنا شيء من هذا. وقد ذكر العلماء على هذا الأصل في أبواب الحدود أمثلة كثيرة، وأكثرها موافق لهذا الحديث. ومنها: أمثلة فيها نظر. فإن الاحتمال الذي يشبه الوهم والخيال، لا عبرة به. والميزان لفظ هذا الحديث. فإن وجدتم له، أو فإن كان له مخرج، فخلو سبيله. وفي هذا الحديث: دليل على أصل. وهو: أنه إذا تعارض مفسدتان تحقيقاً أو احتمالاً: راعينا المفسدة الكبرى، فدفعناها تخفيفاً للشر. والله أعلم.
عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة في معصية. إنما الطاعة في المعروف) متفق عليه. هذا الحديث: قيد في كل من تجب طاعته من الولاة، والوالدين، والزوج، وغيرهم. فإن الشارع أمر بطاعة هؤلاء. وكل منهم طاعته فيما يناسب حاله وكلها بالمعروف. فإن الشارع ردّ الناس في كثير مما أمرهم به إلى العرف والعادة، كالبر والصلة، والعدل والإحسان العام. فكذلك طاعة من تجب طاعته. وكلها تقيد بهذا القيد، وأن من أمر منهم بمعصية الله بفعل محرم، أو ترك واجب: فلا طاعة لمخلوق في معصية الله، فإذا أمر أحدهم بقتل معصوم أو ضربه، أو أخذ ماله، أو بترك حج واجب، أو عبادة واجبة، أو بقطيعة من تجب صلته: فلا طاعة لهم، وتقدم طاعة الله على طاعة الخلق. ويفهم من هذا الحديث، أنه إذا تعارضت طاعة هؤلاء الواجبة، ونافلة من النوافل، فإن طاعتهم تقدم؛ لأن ترك النفل ليس بمعصية، فإذا نهى زوجته عن صيام النفل، أو حج النفل، أو أمر الوالي بأمر من أمور السياسة يستلزم ترك مستحب، وجب تقديم الواجب. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف) كما أنه يتناول ما ذكرنا، فإنه يتناول أيضاً تعليق ذلك بالقدرة والاستطاعة، كما تعلق الواجبات بأصل الشرع. وفي الحديث (عليكم السمع والطاعة فيما استطعتم) والله أعلم.
عن عبد الله بن عمرو، وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا حكم الحاكم، فاجتهد وأصاب، فله أجران. وإذا حكم، فاجتهد فأخطأ، فله أجر واحد) متفق عليه. المراد بالحاكم: هو الذي عنده من العلم ما يؤهله للقضاء. وقد ذكر أهل العلم شروط القاضي. فبعضهم بالغ فيها، وبعضهم اقتصر على العلم الذي يصلح به للفتى. وهو الأولى. ففي هذا الحديث: أن الجاهل لو حكم وأصاب الحكم: فإنه ظالم آثم؛ لأنه لا يحل له الإقدام على الحكم، وهو جاهل. ودلّ على: أنه لا بد للحاكم من الاجتهاد. وهو نوعان: اجتهاد في إدخال القضية التي وقع فيها التحاكم بالأحكام الشرعية. واجتهاد في تنفيذ ذلك الحق على القريب والصديق وضدهما، بحيث يكون الناس عنده في هذا الباب واحداً، لا يفضل أحداً على أحد، ولا يميله الهوى، فمتى كان كذلك فهو مأجور على كل حال: إن أصاب فله أجران. وإن أخطأ فله أجر واحد، وخطؤه معفو عنه، لأنه بغير استطاعته. والعدل كغيره معلق بالاستطاعة. والفرق بين الحاكم المجتهد، وبين صاحب الهوى: أن صاحب الحق قد فعل ما أمر به من حسن القصد والاجتهاد. وهو مأمور في الظاهر باعتقاد ما قام عنده عليه دليله، بخلاف صاحب الهوى، فإنه يتكلم بغير علم، وبغير قصد للحق. قاله شيخ الإسلام. وفي هذا: فضيلة الحاكم الذي على هذا الوصف، وأنه يغنم الأجر والثواب في كل قضية يحكم بها. ولهذا: كان القضاء من أعظم فروض الكفايات؛ لأن الحقوق بين الخلق كلها مضطرة للقاضي عند التنازع أو الاشتباه. وعليه: أنه يجاهد نفسه على تحقيق هذا الاجتهاد الذي تبرأ به ذمته، وينال به الخير، والأجر العظيم. والله أعلم.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو يُعطى الناسُ بدَعْواهم لادَّعى رجالٌ دماءَ قوم وأموالهم. ولكن اليمين على المدعى عليه) رواه مسلم. وفي لفظ عند البيهقي: (البينة على المدعي، واليمين على من أنكر). هذا الحديث عظيم القدر. وهو أصل كبير من أصول القضايا والأحكام؛ فإن القضاء بين الناس إنما يكون عند التنازع: هذا يدّعي على هذا حقاً من الحقوق، فينكره، وهذا يدعي براءته من الحق الذي كان ثابتاً عليه. فبين صلى الله عليه وسلم أصلاً يفض نزاعهم، ويتضح به المحق من المبطل. فمن ادعى عيناً من الأعيان، أو ديناً، أو حقاً من الحقوق وتوابعها على غيره، وأنكره ذلك الغير: فالأصل مع المنكر. فهذا المدعي إن أتى ببينة تثبت ذلك الحق: ثبت له، وحُكم له به وإن لم يأت ببينة: فليس له على الآخر إلا اليمين. وكذلك من ادعى براءته من الحق الذي عليه، وأنكر صاحب الحق ذلك، وقال: إنه باق في ذمته، فإن لم يأت مدعي الوفاء والبراءة ببينة، وإلا حكم ببقاء الحق في ذمته؛ لأنه الأصل. ولكن على صاحب الحق اليمين ببقائه. وكذلك دعوى العيوب، والشروط، والآجال، والوثائق: كلها من هذا الباب. فعلم أن هذا الحديث تضطر إليه القضاة في مسائل القضاء كلها؛ لأن البينة اسم للمبين الحق. وهي تتفاوت بتفاوت الحقوق. وقد فصلها أهل العلم رحمهم الله. وقد بين صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الحكم، وبين الحكمة في هذه الشريعة الكلية، وأنها عين صلاح العباد في دينهم ودنياهم، وأنه لو يعطى الناس بدعواهم لكثر الشر والفساد، ولادّعى رجال دماء قوم وأموالهم. فعلم أن شريعة الإسلام بها صلاح البشر. وإذا أردت أن تعرف ذلك، فقابل بين كل شريعة من شرائعه الكلية وبين ضدها، تجد الفرق العظيم، وتشهد أن الذي شرعها حكيم عليم، رحيم بالعباد؛ لاشتمالها على الحكمة والعدل، والرحمة، ونصر المظلوم، وردع الظالم. وقد قال بعض المحققين: إن الشريعة جعلت اليمين في أقوى جنبتي المدعين. ومن تتبع ذلك عرفه. والله أعلم. عن عائشة رضي الله عنها – مرفوعاً – (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا مجلود حدّاً، ولا ذي غمر على أخيه، ولا ظنين في ولاء ولا قرابة، ولا القانع من أهل البيت) رواه الترمذي. هذا حديث مشتمل على الأمور القادحة في الشهادة. وذلك: أن الله أمر بإشهاد العدول المرضيين. وأهل العلم اشترطوا في الشاهد في الحقوق بين الناس: أن يكون عدلاً ظاهراً. وذكروا صفات العدالة. وحَدَّها بعضهم بحد مأخوذ من قوله تعالى: والأشياء التي تقدح في الشهادة ترجع إلى التهمة أو إلى مظنتها. فمن الناس من لا تقبل شهادته مطلقاً على جميع الأمور التي تعتبر فيها الشهادة، كالخائن والخائنة، والذي أتى حداً – أي: معصية كبيرة لم يتب منها – فإنه لخيانته وفسقه مفقود العدالة، فلا تقبل شهادته. ومن الناس نم هو موصوف بالعدالة، لكن فيه وصف يخشى أن يميل معه، فيشهد بخلاف الحق وذلك كالأصول والفروع، والمولى والقانع لأهل البيت. فهؤلاء لا تقبل شهادتهم للمذكورين؛ لأنه محل التهمة. وتقبل عليهم. ومثل ذلك الزوجان، والسيد مع مكاتبه أو عتيقه. ومن الناس من هو بعكس هؤلاء، كالعَدُوّ الذي في قلبه غمر – أي: غِلٌّ – على أخيه فهذا إن شهد له، قبلت شهادته. وإن شهد على عدوه: لم تقبل؛ لأن العداوة تحمل غالباً على الإضرار بالعدو والله أعلم.
عن رافع بن خديج رضي الله عنه قال (قلت يا رسول الله، إنَّا لاَقُوا العدوَّ غدا، وليس معنا مُدَى. أفنذبح بالقصب؟ قال: ما أنهر الدم، وذُكر اسم الله عليه فكُلْ، ليس السنَّ والظَّفْرَ، وسأحدثك عنه أما السنُّ فعظمٌ. وأما الظفر فمدَى الحبشة. وأصبنا نهب إبل وغنم فنَدَّ منها بعير، فرماه رجل بسهم فحبسه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لهذه أوَابِدَ كأوابد الوحش، فإذا غلبكم منها شيء فافعلوا به هكذا). متفق عليه. قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أنهر الدم – إلى آخره) كلام جامع يدخل فيه جميع ما يُنْهِر الدم – أي: يسفِكه – من حديد، أو نحاس، أو صفر، أو قصب، أو خشب، أو حطب، أو حصى محدد، أو غيرها، وما له نفوذ كالرصاص في البارود؛ لأنه ينهر بنفوذه، لا بثقله. ودخل في ذلك: ما صيد بالسهام، والكلام المعلمة، والطيور إذا ذكر اسم الله على جميع ذلك. وأما محل الذبح: فإنه الحلقوم والمريء. إذا قطعهما كفى. فإن حصل معهما قطع الودَجَين – وهما العرقان المكتنفان الحلقوم – كان أولى. وأما الصيد: فيكفي جرحه في أي موضع كان من بدنه؛ للحاجة إلى ذلك. ومثل ذلك إذا ندَّ البعير أو البقرة أو الشاة وعجز عن إدراكه: فإنه يكون بمنزلة الصيد، كما في الحديث. ففي أي محل من بدنه جُرح كفى، كما أن الصيد إذا قُدر عليه – وهو حي – فلا بد من ذكاته. فالحكم يدور مع علته، المعجوز عنه بمنزلة الصيد، ولو من الحيوانات الإنسية. والمقدور عليه لا بد من ذبحه، ولو من الحيوانات الوحشية. واستثنى النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك السن، وعلله بأنه عظم. فدلّ على أن جميع العظام – وإن أنهرت الدم – لا يحل الذبح بها. وقيل: إن العلة مجموع الأمرين: كونه سنا، وكونه عظما. فيختص بالسن. والصحيح الأول. وكذلك الظفر لا يحل الذبح بها، لا طير ولا غيره. فالحاصل: أن شروط الذبح: إنهار الدم في محل الذبح، مع كون الذابح مسلماً، أو كتابياً، وأن يذكر اسم الله عليها. وأما الصيد: فهو أوسع من الذبح. كما تقدم أنه في أي موضع يكون من بدن الصيد، وأنه يباح صيد الجوارح من الطيور والكلاب إذا كانت مُعَلَّمة، وذُكر اسم الله عليها عند إرسالها على الصيد. والله أعلم. عن شدّاد بن أوْس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء. فإذا قتلتم فأحْسِنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة. وليحدّ أحدكم شفرته ولْيُرِحْ ذبيحته) رواه مسلم. الإحسان نوعان: إحسان في عبادة الخالق، بأن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه. وهو الجد في القيام بحقوق الله على وجه النصح، والتكميل لها. وإحسان في حقوق الخلق. وأصل الإحسان الواجب، أن تقوم بحقوقهم الواجبة، كالقيام ببر الوالدين، وصلة الأرحام، والإنصاف في جميع المعاملات، بإعطاء جميع ما عليك من الحقوق، كما أنك تأخذ مالك وافياً، قال تعالى: ويدخل في ذلك الإحسان إلى جميع نوع الإنسان، والإحسان إلى البهائم، حتى في الحالة التي تزهق فيها نفوسها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا قتلتم فأحسنوا القِتْلة). فمن استحق القتل لموجب قتل يضرب عنقه بالسيف، من دون تعزير ولا تمثيل. وقوله صلى الله عليه وسلم : (إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة) أي: هيئة الذبح وصفته. ولهذا قال: (وليُحِدَّ أحدكم شَفرته) أي: سكينه: (وليرح ذبيحته) فإذا كان العبد مأموراً بالإحسان إلى من استحق القتل من الآدميين، وبإحسان ذبحة ما يراد ذبحه من الحيوان. فكيف بغير هذه الحالة؟ واعلم أن الإحسان المأمور به نوعان: أحدهما: واجب، وهو الإنصاف، والقيام بما يجب عليك للخلق بحسب ما توجه عليك من الحقوق. والثاني: إحسان مستحب. وهو ما زاد على ذلك من بذل نفع بدني، أو مالي، أو علمي، أو توجيه لخير ديني، أو مصلحة دنيوية، فكل معروف صدقة، وكل ما أدخل السرور على الخلق صدقة وإحسان. وكل ما أزال عنهم ما يكرهون. ودفع عنهم ما لا يرتضون من قليل أو كثير، فهو صدقة وإحسان. ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قصة البغيّ التي سقت الكلب الشديد العطش بخفيها من البئر، وأن الله شكر لها وغفر لها. قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لنا في البهائم أجراً قال: في كل كبد حَرَّى أجر). فالإحسان هو بذل جميع المنافع من أي نوع كان، لأي مخلوق يكون، ولكنه يتفاوت بتفاوت المحسَن إليهم، وحقهم ومقامهم، وبحسب الإحسان، وعظم موقعه، وعظيم نفعه، وبحسب إيمان المحسن وإخلاصه، والسبب الداعي له إلى ذلك. ومن أجَلِّ أنواع الإحسان: الإحسان إلى من أساء إليك بقول أو فعل. قال تعالى: والله تعالى يوجب على عباده العدل من الإحسان، ويندبهم إلى زيادة الفضل منه. وقال تعالى في المعاملة: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر الحمر الإنسية، ولُحومَ البغال، وكلَّ ذي ناب من السباع، وكلَّ ذي مخلب من الطير) رواه الترمذي. الأصل في جميع الأطعمة الحلّ؛ فإن الله أحل لعباده ما أخرجته الأرض من حبوب وثمار ونبات متنوع، وأحل لحم حيوانات البحر كلها: حيها وميتها. وأما حيوانات البر: فأباح منها جميع الطيبات، كالأنعام الثمانية وغيرها، والصيود الوحشية من طيور وغيرها. وإنما حرم من هذا النوع الخبائث، وجعل لذلك حداً وفاصلاً. وربما عين بعض المحرمات، كما عين في هذا الحديث الحمر الأهلية، والبغال وحرمها. وقال: (إنها رِجْس). وأما الحمر الوحشية: فإنه حلال، وكذلك حرم ذوات الأنياب من السباع، كالذئب والسد والنمر والثعلب والكلب ونحوها، وكل ذي مخلب من الطير يصيد بمخلبه، كالصقر والباشق ونحوهما. وما نهى عن قتله كالصُّرد، أو أمر بقتله كالغراب ونحوها: فإنها محرمة. وما كان خبيثاً، كالحيات والعقارب والفئران وأنواع الحشرات وكذلك ما مات حتف أنفه من الحيوانات المباحة، أو ذكِّي ذكاة غير شرعية: فإنه محرم. والله أعلم.
|