فصل: لطائف التفسير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثانيا: وقال ابن عباس رضي الله عنهما:
«كان الرجل إذا قال لامرأته في الجاهلية: أنت علي كظهر أمي، حرمت عليه فكان أول من ظاهر في الإسلام (أوس) ثم ندم، وقال لامرأته: انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسليه، فأتته، فنزلت هذه الآيات».
ثالثا: وعن خولة بن مالك بن ثعلبة قالت: «ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه وهو يجادلني فيه ويقول: اتقي الله فإنه ابن عمك. فما برحت حتى نزل القرآن {قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها...} إلى الفرض قال: يعتق رقبة، قلت لا يجد، قال: فليطعم ستين مسكينا.
قلت: ما عنده شيء يتصدق به، قال: فإني سأعينه بعرق من تمر.
قلت: يا رسول الله وإني أعينه بعرق آخر. قال: قد أحسنت اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكينا وارجعي إلى ابن عمك»
. قال: والعرق ستون صاعا.

.وجوه القراءات:

أولا: قوله تعالى: {قد سمع الله} بإظهار الدال.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام الدال في السين.
قال الكسائي: من قرأ {قد سمع} فبين الدال فلسانه أعجمي ليس بعربي.
قال الألوسي: ولا يلتفت إلى هذا فكلا الأمرين فصيح متواتر، بل الجمهور على البيان.
ثانيا: قوله تعالى: {تجادلك في زوجها} قراءة الجمهور تجادلك من المجادلة وهي المراجعة في الكلام.
وقرئ {تحاروك} أي تراجعك الكلام.
ثالثا: قوله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم} قرأ حفص وعاصم {يظاهرون} بضم الياء وكسر الهاء.
وقرأ نافع وابن كثير وعمر {يظهرون} بتشديد الظاء والهاء وحذف الألف وفتح الياء، وقرأ حمزة والكسائي وخلف {يظاهرون} بفتح الياء وتشديد الظاء وألف.
وقرأ الحسن وقتادة {يظهرون} بفتح الياء وفتح الظاء مخففة مكسورة الهاء مشددة، والمعنى (يقولون لهن أنتن كظهور أمهاتنا).
رابعا: قوله تعالى: {ما هن أمهاتهم} الجمهور بكسر التاء وهي لغة أهل الحجاز.
وقرأ المفضل عن عاصم {أمهاتهم} بالرفع على لغة تميم.
وقرأ ابن مسعود {بأمهاتهم} بزيادة الباء.

.وجوه الإعراب:

أولا: قوله تعالى: {وتشتكي إلى الله} عطف على {تجادلك} فهو من عطف الجمل لا محل لها من الإعراب لكونها صلة للتي.
وجوز بعضهم أن تكون حالا، أي تجادلك شاكية حالها إلى الله ويقدر مبتدأ أي وهي تشتكي؛ لأن المضارعية لا تقترن بالواو في الفصيح فيقدر معها المبتدأ لتكون اسمية.
ثانيا: قوله تعالى: {الذين يظاهرون منكم من نسائهم} اسم الموصول {الذين} مبتدأ خبره محذوف أي مخطئون، وأقيم دليله هو قوله تعالى: {ما هن أمهاتهم} مقامه.
وقال ابن الأنباري: خبره {ما هن أمهاتهم} أي ما نساؤهم أمهاتهم.
ثالثا: قوله تعالى: {ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم}.
قال الفراء: وانتصاب الأمهات هاهنا بإلقاء الباء، وهي قراءة عبد الله {ما هن بإمهاتهم} ومثله {ما هذا بشرا} أي ما هذا ببشر، فلما ألقيت الباء أبقى أثرها، وهو النصب، وعلى هذا كلام أهل الحجاز، فأما أهل نجد فإنهم إذا ألقوا رفعوا وقالوا: {ما هن أمهاتهم} و{ما هذا بشر}.
وقال أبو حيان: أجرى (ما) مجرى (ليس) في رفع الاسم ونصب الخبر كما في قوله تعالى: {ما هذا بشرا} [يوسف: 31] وقوله: {فما منكم من أحد عنه حاجزين} [الحاقة: 47].
أقول: هذا هو الصحيح لأن (ما) بمعنى ليس فهي نافية حجازية وهي لغة القرآن.
رابعا: قوله تعالى: {وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا} انتصب {منكرا} {وزورا} على الوصف لمصدر محذوف، وتقديره وإنهم ليقولون قولا منكرا، وقولا زورا.
خامسا: قوله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة} اسم الموصول (الذين) مبتدأ، وقوله تعالى: {فتحرير رقبة} مبتدأ آخر خبره مقدر أي فعليهم تحرير رقبة، أو فكفارتهم تحرير رقبة.
والجملة من المبتدأ وخبره خبر الموصول، ودخلته الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط.
سادسا: قوله تعالى: {ثم يعودون لما قالوا}.
قال ابن الأنباري: الجار والمجرور في موضع نصب لأنه يتعلق بـ {يعودون} و(ما) مصدرية، وتقديره (يعودون لقولهم). والمصدر في موضع المفعول كقولك (هذا الثوب نسج اليمن)، أي منسوجه، ومعناه يعودون للإمساك المقول فيه الظهار ولا يطلق.
وقيل: اللام في {لما قالوا} بمعنى (إلى) أي يعودون إلى قول الكلمة التي قالوها أولا من قولهم: أنت علي كظهر أمي وهذا من مذهب أهل الظاهر.

.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى: يقول علماء اللغة: (قد) حرف يوجب به الشيء وهي إذا دخلت على الماضي تفيد (التحقيق) وإذا دخلت على المضارع تفيد (التقليل) لأنها تميل إلى الشك تقول: قد ينزل المطر، وقد يجود البخيل، وأما في كلام الله فهي للتحقيق سواء دخلت على الماضي أو المضارع كقوله تعالى: {قد يعلم الله المعوقين منكم} [الأحزاب: 18].
قال الجوهري: (قد) حرف لا يدخل إلا على الأفعال.
قال الزمخشري: معنى (قد) التوقع لأنه صلى الله عليه وسلم والمجادلة كانا متوقعين أن ينزل الله في شكواها ما يفرج عنها.
ومعنى سمعه تعالى لقولها إجابة دعائها، لا مجرد علمه تعالى بذلك، وهو كقول المصلي: سمع الله لمن حمده.
اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {والله يسمع تحاوركمآ إن الله سميع بصير} قال الإمام الفخر: هذه الواقعة تدل على أن من انقطع رجاؤه عن الخلق، ولم يبق له فيما أهمه أحد سوى الخالق كفاه الله ذلك الأمر.
وصيغة المضارع (يسمع) تفيد التجدد، للدلالة على استمرار السمع حسب استمرار التحاور وتجدده، وذكرها مع الرسول في سلك الخطاب (تحاوكما) تشريف لها بهذا الخطاب الكريم، وإظهار الاسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة والروعة في قلوب المؤمنين.
اللطيفة الثالثة: قال ابن منظور: كانت العرب تطلق النساء في الجاهلية بهذه الكلمة (أنت علي كظهر أمي) وإنما خصوا (الظهر) دون البطن، والفخذ، والفرج- وهذه أولى بالتحريم- لأن الظهر موضع الركوب، والمرأة مركوبة إذا غشيت، فكأنه أراد أن يقول: ركوبك للنكاح علي حرام كركوب أمي للنكاح، فأقام الظهر مقام الركوب، وهذا من لطيف الاستعارات للكناية.
قال الفخر الرازي:
ليس الظهار مأخوذا من الظهر الذي هو عضو من الجسد، لأنه ليس الظهر أولى بالذكر في هذا الموضع من سائر الأعضاء، التي هي مواضع المباضعة والتلذذ، بل الظهر هاهنا مأخوذ من العلو ومنه قوله تعالى: {فما اسطاعوا أن يظهروه} [الكهف: 97] أي يعلوه، وكل من علا شيئا فقد ظهره، ومنه سمي المركوب ظهرا لأن راكبه يعلوه، وكذا امرأة الرجل ظهره لأنه يعلوها بملك البضع، فكأن امرأة الرجل مركوب للرجل وظهر له.
ويدل على صحة هذا المعنى أن العرب تقول في الطلاق: نزلت عن امرأتي أي طلقتها، وفي قولهم: أنت علي كظهر أمي (حذف وإضمار) لأن تأويله: ظهرك علي أيملكي إياك، وعلوي عليك حرام، كما أن علوي على أمي وملكها حرام علي.
اللطيفة الرابعة: المظاهر شبه الزوجة بالأم، ولم يقل هي أم، فكيف كان ذلك منكرا وزورا؟
قال الإمام الفخر في الجواب عن ذلك: إن الكذب إنما لزم لأن قوله: (أنت علي كظهر أمي) إم أن يكون إخبارا، أو إنشاء.
فعلى الأولى: إنه كذب لأن الزوجة محللة، والأم محرمة، وتشبيه المحللة بالمحرمة في وصف الحل والحرمة كذب.
وعلى الإنشاء: كان ذلك أيضا كذبا، لأن معناه أن الشرع جعله سببا في حصول الحرمة، فلما لم يرد الشرع بهذا التشبيه كان جعله إنشاء في وقوع هذا الحكم كذبا وزورا.
اللطيفة الخامسة: روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر في خلافته على امرأة، وكان راكبا على حمار والناس معه، فاستوفقته تلك المرأة طويلا، ووعظته وقالت له: عهدي بك يا عمر وأنت صغير تدعى عميرا، ثم قيل لك: يا عمر، ثم قيل لك: يا أمير المؤمنين، فاتق الله يا عمر في الرعية، واعلم أن من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب.
وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟
فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره، لا زلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟! هذه (خولة بنت ثعلبة) التي سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمح رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟!.
أقول: رضي الله عنك يا عمر فهذه أخلاق الصديقين.
اللطيفة السادسة: قوله تعالى: {الذين يظاهرون منكم} الخطاب بلفظ (منكم) فيه مزيد توبيخ للعرب، وتهجين لعادتهم في الظهار، لأنه كان من أيمان الجاهلية خاصة، دون سائر الأمم.
اللطيفة السابعة: روى الإمام الترمذي عن (سلمة بن صخر البياضي) أنه قال: «كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل رمضان خفت أن أصيب امرأتي شيئا يتابع بي حتى أصبح، فظاهرات منها حتى ينسلخ رمضان، فبينا هي تخدمني ذات ليلة إذ انكشف لي منها شيء، فما لبثت أن نزوت عليها، فلما أصبحت أخبرت قومي، فقلت: امشوا معي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: لا والله.
فانطلقت فأخبرته صلى الله عليه وسلم فقال: أنت بذاك يا سلمة! قلت: أنا بذاك يا رسول الله مرتين، وأنا صابر لأمر الله، فاحكم فيما أراك الله؟
قال: حرر رقبة، قلت: والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها وضربت صفحة رقبتي.
قال: فصم شهرين متتابعين.
قالت: وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام؟
قال: فأطعم وسقا من تمر بين ستين مسكينا.
قلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا وحشين ما لنا طعام!!
قال: فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك، فأطعم ستين مسكينا وسقا من تمر، وكل أنت وعيالك بقيتها.
فرجعت إلى قومي فقلت: وجدت عندكم الضيق، وسوء الرأي، ووجدت عن النبي صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي، وقد أمر لي بصدقتكم»
.

.الأحكام الشرعية:

.الحكم الأول: هل لاظهار مشروع كالطلاق أم هو محرم؟

كان الظهار في الجاهلية طلاقا، بل هو أشد أنواع الطلاق عندهم، لما فيه من تشبيه الزوجة بالأم التي تحرم حرمة على التأبيد، بل لا تجوز بحال من الأحوال، وجاء الإسلام فأبطل هذا الحكم، وجعل الظهار محرما قربان المرأة حتى يكفر زوجها، ولم يجعله طلاقا كما كانوا يعتبرونه في الجاهلية.
فلو ظاهر الرجل يريد الطلاق كان ظهارا، ولو طلق يريد به الظهار كان طلاقا، العبرة باللفظ لا بالنية، فلا يقوم أحدهما مقام الآخر.