الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ونضرب هنا مثلًا بأخسِّ الحرف في عُرْف الناس وإنْ كانت الحِرف كلها شريفة، وليس فيها خِسَّة طالما يقوت الإنسان منها نفسه وعياله من الحلال.. فالخِسَّة في العاطل الأخرق الذي يُتقِن عملًا.هذا العامل البسيط ماسح الأحذية ينظر إليه الناس على أنهم افضل منه، وأنه أقل منهم، ولو نظروا إلى علبة الورنيش التي يستخدمها لوجدوا كثيرين من العمال والعلماء والمهندسين والأغنياء يعملون له هذه العلبة، وهو فاضل عليهم جميعًا حينما يشتري علبة الورنيش هذه.. لكن الناس لا ينظرون إلى تسخير كل هؤلاء لهذا العامل البسيط.فقوله تعالى: {لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32].مَنْ مِنّا يُسخّر الآخر؟! كُلٌّ منا مُسخَّر للآخر، أنت مُسخَّر لي فيما تتقنه، وأنا مُسخَّر لك فيما أتقنه.. هذه حكمة الله في خَلْقه ليتم التوازن والتكامل بين أفراد المجتمع.وربُّنا سبحانه وتعالى لم يجعل هذه المهن طبيعية فينا.. يعني هذا لكذا وهذا لكذا.. لا.. الذي يرضى بقدر الله فيما يُناسبه من عمل مهما كان حقيرًا في نظر الناس، ثم يُتقن هذا العمل ويجتهد فيه ويبذل فيه وُسْعه يقول له الحق سبحانه: ما دُمْتَ رضيتَ بقدري في هذا العمل لأرفعنّك به رِفْعة يتعجَّب لها الخَلْق..وفعلًا تراهم ينظرون إلى أحدهم ويشيرون إليه: كان شيالًا.. كان أجيرًا.. نعم كان.. لكنه رَضِي بما قسم الله وأتقن وأجاد، فعوَّضه الله ورفعه وأعلى مكانته.ولذلك يقولون: مَنْ عمل بإخلاص في أيّ عمل عشر سنين يُسيّده الله بقية عمره، ومَنْ عمل بإخلاص عشرين سنة يُسيّد الله أبناءه، ومَنْ عمل ثلاثين سنة سيَّد الله أحفاده.. لا شيء يضيع عند الله سبحانه.فليس فينا أَعْلى وأَدْنى، وإياك أنْ تظنَّ أنك أعلى من الناس، نحن سواسية، ولكن مِنَّا من يُتقِن عمله، ومِنَّا مَنْ لا يتقن عمله؛ ولذلك قالوا: قيمة كل امرئ ما يُحسِنه.ولا تنظر إلى زاوية واحدة في الإنسان، ولكن انظر إلى مجموع الزوايا، وسوف تجد أن الحق سبحانه عادلٌ في تقسيم المواهب على الناس.وقد ذكرنا أنك لو أجريتَ معادلة بين الناس لوجدتَ مجموع كل إنسان يساوي مجموع كُلِّ إنسان، بمعنى أنك لو أخذتَ مثلًا: الصحة والمال والأولاد والقوة والشجاعة وراحة البال والزوجة الصالحة والجاه والمنزلة.. إلخ. لوجدت نصيب كُلٍّ منّا في نهاية المعادلة يساوي نصيب الآخر، فأنت تزيد عني في القوة، وأنا أزيد عنك في العلم، وهكذا.. لأننا جميعًا عبيدٌ لله، ليس مِنّا مَنْ بينه وبين الله نسب أو قرابة.وقوله تعالى: {فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [النحل: 71].فما ملكت أيمانهم: هم العبيد المماليك.، والمعنى: أننا لم نَرَ أحدًا منكم فضّله الله بالرزق، فأخذه ووزّعه على عبيده ومماليكه، أبدًا.. لم يحدث ذلك منكم.، والله سبحانه لا يعيب عليهم هذا التصرف، ولا يطلب منهم أنْ يُوزّعوا رزق الله على عبيدهم، ولكن في الآية إقامةٌ للحجة عليهم، واستدلال على سُوء فعلهم مع الله سبحانه وتعالى.وكأن القرآن يقول لهم: إذا كان الله قد فُضَّل بعضكم في الرزق، فهل منكم مَنْ تطوع برزق الله له، ووزَّعه على عبيده؟.. أبدًا.. لم يحدث منكم هذا.. فكيف تأخذون حق الله في العبودية والألوهية وحقّه في الطاعة والعبادة والنذر والذبح، وتجعلونه للأصنام والأوثان؟!فأنتم لم تفعلوا ذلك فيما تملكون.. فكيف تسمحون لأنفسكم أنْ تأخذوا حقَّ الله، وتعطوه للأصنام والأوثان؟ويقول تعالى في آية أخرى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلًا مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الروم: 28].أي: أنكم لم تفعلوا هذا مع أنفسكم، فكيف تفعلونه مع الله؟ فهذه لَقْطة: أنكم تُعاملون الله بغير ما تُعاملون به أنفسكم: {فَهُمْ فِيهِ سَوَاء} [النحل: 71].أي: أنكم سوَّيتُم بين الله سبحانه وبين أصنامكم، وجعلتموهم شركاء له سبحانه وتعالى وتعبدونهم مع الله.والحق سبحانه وإنْ رزقنا وفضَّلَنا فقد حفظ لنا المال، وحفظ لنا الملكية، ولم يأمرنا أن نعطي أموالنا للناس دون عمل وتبادل منافع، فإذا ما طلب منك أن تعطي أخاك المحتاج فوق ما افترض عليك من زكاة يقول لك: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة: 245].مع أن الحق سبحانه واهب الرزق والنِّعَم، يطلب منك أنْ تُقرِضه، وكأنه سبحانه يحترم عملك ومجهودك، ويحترم ملكيتك الخاصة التي وهبها لَك.. فيقول: أقرضني. لعلمه سبحانه بمكانة المال في النفوس، وحِرْص المقرض على التأكد من إمكانية الأداء عند المقترض، فجعل القرض له سبحانه لتثقَ أنت أيها المقرض أن الأداء مضمون من الله.ويختم الحق سبحانه الآية بقوله: {أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ} [النحل: 71].أي: بعد أنْ أنعم الله عليهم بالرزق، ولم يطلب منهم أنْ ينثروه على الغير، جحدوا هذه النعمة، وأنكروا فَضْل الله، وجعلوا له شركاء من الأصنام والأوثان، وأخذوا حَقَّ الله في العبودية والألوهية وأعطوْهُ للأصنام والأوثان، وهذا عَيْنُ الجحود وإنكار الجميل.ثم يقول الحق سبحانه: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً}.الحق سبحانه في الآية السابقة قنَّن لنا قضية القمة قضية العقيدة في أننا لا نعطي شيئًا جعله الله لنفسه سبحانه من العبودية والألوهية والطاعة وغيرها، لا نعطيها لغيره سبحانه.، وإذا صَحَّتْ هذه القضية العَقدية صَحَّتْ كل قضايا الكون.ثم بيَّن سبحانه أنه خلقنا من واحد، ثم خلق من الواحد زوجة له، ليتم التناسل والتكاثر.. إذ إن استمرارَ بقائكم خاضعٌ لأمرين:الأمر الأول: استبقاء الحياة، وقد ضمنه سبحانه بما أنعم به علينا من الأرزاق، فنأكل ونشرب فنستبقي الحياة، فبعد أنْ تحدّث عن استبقاء الحياة بالرزق في الآية السابقة ذكر:الأمر الثاني: وهو استبقاء الحياة ببقاء النوع، فقال سبحانه: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [النحل: 72].والأزواج: جمع زوج، والزوج لا يعني الرجل فقط، بل يعني الرجل والمرأة؛ لأن كلمة {زوج} تُطلَق على واحد له نظير من مثله، فكلُّ واحد منهما زَوْج.. الرجل زوج، والمرأة زوج، فتُطلق إذن على مُفْرد، لكن له نظير من مثل.و{مِّنْ أَنْفُسِكُمْ} [النحل: 72].أي: من نَفْس واحدة، كما قال في آية أخرى: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: 6].يعني: أخذ قطعة من الزوج، وخلق منها الزوجة، كما خلق سبحانه حواء من آدم عليهما السلام.أو: {وَخَلَقَ مِنْهَا} [النساء: 1].أي: من جنسها، كما قال تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128].أي: من جنسكم.فالمسألة تحتمل المعنيين.. مَن اتسع ظنُّه إلى أن الله خلق حواء من ضِلع آدم أي: منه، من بعضه فلا مانع، ومَنْ قال: خلق الله حواء كما خلق آدم خَلْقًا مستقلًا، ثم زَاوَج بينهما بالزواج فلا مانع.. فالأول على معنى البَعْضية، والثاني على معنى من جنسكم.قلنا: إن الجمع إذا قابل الجمع اقتضت القسمةُ آحادًا.. كما لو قال المعلم لتلاميذه: أخرجوا كتبكم، فهو يخاطب التلاميذ وهم جمع، وكتبهم جمع، فهل سيُخرِج كل تلميذ كُتب الآخرين؟!.. لا.. بل كل منهم سيُخرج كتابه هو فقط.. إذن: القسمة هنا تقتضي آحادًا.، وكذلك المعنى في قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [الروم: 21].
|