الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{قَالَ فَمَا بَالُ القرون الاولى} لما شاهد اللعينُ ما نظمه عليه الصلاة والسلام في سلك الاستدلالِ من البرهان النيّر على الطراز الرائِع خاف أن يُظهر للناس حقّيةَ مقالاتِه عليه الصلاة والسلام وبُطلانَ خرافات نفسِه ظهورًا بيّنًا فأراد أن يصرِفه عليه الصلاة والسلام عن سَننه إلى ما لا يعنيه من الأمور التي لا تعلّق لها بالرسالات من الحكايات، ويشغَلَه عما هو بصدده عسى يظهر فيه نوعُ غفلةٍ فيتسلق بذلك إلى أن يدّعيَ بين يدي قومه نوعَ معرفة، فقال: ما حالُ القرونِ الماضية والأممِ الخالية وماذا جرى عليهم من الحوادث المفصّلة؟ فأجاب عليه الصلاة والسلام: بأن العلمَ بأحوالهم مفصّلةً مما لا ملابسة له بمنصِب الرسالة وإنما علمُها عند الله عز وجل، وأما ما قيل من أنه سأله عن حال مَنْ خلا من القرون وعن شقاء من شقيَ منهم وسعادةِ من سعِد فيأباه قوله تعالى: {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبّى} فإن معناه أنه من الغيوب التي لا يعلمها إلا الله تعالى وإنما أنا عبدٌ لا أعلم منها إلا ما علّمنيه من الأمور المتعلقة بما أُرسلت به، ولو كان المسؤولُ عنه ما ذكر من الشقاوة والسعادةِ لأجيب ببيان أن من اتبع الهدى منهم فقد سلِم ومن تولى فقد عُذّب حسبما نطق به قوله تعالى: {والسلام} الآيتين {فِى كتاب} أي مُثبْتٌ في اللوح المحفوظِ بتفاصيله ويجوز أن يكون ذلك تمثيلًا لتمكنه وتقرّره في علم الله عز وجل بما استحفظه العالَم، وقيده بالكَتَبة كما يلوح به قوله تعالى: {لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى} أي لا يُخطِىء ابتداءً ولا يذهب علمه بقاءً بل هو ثابتٌ أبدًا فإنهما مُحالان عليه سبحانه، وهو على الأول لبيان أن إثباتَه في اللوح ليس لحاجته تعالى إليه في العلم به ابتداءً أو بقاءً، وإظهارُ ربي في موقع الإظمار للتلذذ بذكره ولزيادة التقريرِ والإشعار بعلة الحُكم فإن الربوبيةَ مما يقتضي عدمَ الضلالِ والنسيانِ حتمًا، ولقد أجاب عليه الصلاة والسلام عن السؤال بجوا عبقري بديعٍ حيث كشف عن حقيقة الحقِّ حجابَها مع أنه لم يخرُجْ عما كان بصدده من بيان شؤونِه تعالى ثم تخلّص إليه حيث قال بطريق الحكايةِ عن الله عز وجل لما سيأتي من الالتفات: {الذى جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْدًا} على أن الموصولَ إما مرفوعٌ على المدح أو منصوبٌ عليه أو خبرُ مبتدأ محذوف، أي جعلها لكم كالمهد تتمهدونها أو ذاتَ مهدٍ وهو مصدرٌ سُمّي به المفعولُ، وقرئ مِهادًا وهو اسمٌ لما يُمْهد كالفِراش أو جمعُ مهد أي جعل كلَّ موضع منها مهدًا لكل واحد منكم {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا} أي حصّل لكم طرقًا ووسّطها بين الجبال والأودية والبراري تسلُكونها من قُطْر إلى قطر لتقضُوا منها مآربَكم وتنتفعوا بمنافعها ومرافقها.{وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} هو المطر {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} أي بذلك الماءِ وهو عطفٌ على أنزل داخلٌ تحت الحكاية، وإنما التُفت إلى التكلم للتنبيه على ظهور ما فيه من الدِلالة على كمال القدرةِ والحكمة، والإيذان بأنه لا يتأتى إلا من قادر مُطاعٍ عظيمِ الشأن تنقاد لأمره وتُذعِن لمشيئته الأشياءُ المختلفة كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السماء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} وقوله تعالى: {أَم مَّنْ خَلَقْنَا السموات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ السماء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ} خلا أن ما قبل الالتفاتِ هناك صريحُ كلامِه تعالى وأما هاهنا فحكايةٌ عنه تعالى وجَعْلُ قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ} هو المحكيَّ مع كون ما قبله كلاَم موسى عليه الصلاة والسلام خلافُ الظاهر مع أنه يفوّت حينئذ الالتفاتَ لعدم اتحادِ المتكلم {أزواجا} أصنافًا سميت بذلك لازدواجها واقترانِ بعضِها ببعض {مّن نبات} بيانٌ أو صفةٌ لأزواجًا أي كائنة من نبات وكذا قوله تعالى: {شتى} أي متفرقة جمعُ شتيت، ويجوز أن يكون صفةً لنبات لما أنه في الأصل مصدرٌ يستوي فيه الواحد والجمع، يعني أنها شتّى مختلفةٌ في الطعم والرائحة والشكل والنفع، بعضُها صالحٌ للناس على اختلاف وجوهِ الصلاح وبعضُها للبهائم، فإن من تمام نعمته تعالى أن أرزاقَ عبادِه لما كان تحصّلها بعمل الأنعامِ جعل علَفها مما يفضُل عن حاجاتهم ولا يليق بكونه طعامًا لهم.وقوله تعالى: {كُلُواْ وارعوا أنعامكم} حال من ضمير فأخرجنا على إرادة القول أي أخرجنا منها أصنافَ النباتِ قائلين: كلوا وارعَوا أنعامَكم أي معدّيها لانتفاعكم بالذات وبالواسطة آذنين في ذلك {إِنَّ في ذَلِكَ} إشارةٌ إلى ما ذكر من شؤونه تعالى وأفعاله، وما فيه من معنى البُعد للإيذان بعلو رتبتِه وبُعْدِ منزلته في الكمال، والتنكيرُ في قوله تعالى: {لاَيَاتٍ} للتفخيم كمًا وكيفًا أي لآياتٍ كثيرةً جليلةً واضحةَ الدِلالة على شؤون الله تعالى في ذاته وصفاتِه وأفعاله، وعلى صحة نبوةِ موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام {لأُوْلِى النهى} جمع نُهْية سمّي بها العقلُ لنهيه عن اتباع الباطلِ وارتكاب القبائح كما سمّي بالعقل والحِجْر لعقله وحَجْره عن ذلك، أي لذوي العقولِ الناهية عن الأباطيل التي من جملتها ما يدّعيه الطاغية ويقبله منه فئتُه الباغية، وتخصيصُ كونها آياتٍ بهم مع أنها آياتٌ للعالمين باعتبار أنهم المنتفعون بها.{مِنْهَا خلقناكم} أي في ضمن خلقِ أبيكم آدمَ عليه الصلاة والسلام منها فإن كل فردٍ من أفراد البشر له حظٌّ من خلقه عليه الصلاة والسلام إذ لم تكن فطرتُه البديعةُ مقصورةً على نفسه عليه الصلاة والسلام، بل كانت أنموذَجًا منطويًا على فطرة سائرِ أفرادِ الجنسِ انطواءً إجماليًا مستتبِعًا لجَريان آثارِهما على الكل فكان خلقُه عليه الصلاة والسلام منها خلقًا للكل منها، وقيل: المعنى خلقنا أبدانَكم من النُطفة المتولدة من الأغذية المتولّدة من الأرض بوسائطَ، وقيل: إن الملَك الموكلَ بالرحِم يأخذ من تربة المكان الذي يُدفن فيه المولود فيبدّدها على النطفة فيخلق من التراب والنطفة {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} بالإماتة وتفريقِ الأجزاء، وإيثار كلمة في على كلمة إلى للدِلالة على الاستقرار المديدِ فيها {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} بتأليف أجزائِكم المتفتّتة المختلطةِ بالتراب على الهيئة السابقةِ وردِّ الأرواح إليها، وكونُ هذا الإخراجِ تارةً أخرى باعتبار أن خلقَهم من الأرض إخراجٌ لهم منها وإن لم يكن على نهج التارةِ الثانيةِ، والتارة في الأصل اسمٌ للتَّوْر الواحد وهو الجرَيانُ ثم أطلق على كل فَعْلة واحدة من الفَعَلات المتجددة كما مر في المرة. اهـ.
|