فصل: بلاغة التقديم في قوله تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.ترتيب الجمل الثلاث:

يقول أبو حيان نسق هذه الأخبار في غاية الحسن؛ إذ بدئ بالأشرف، وهو قوله: {أقسط عند الله} أي في حكم الله،فينبغي أن يتّبع ما أمر به، إذ اتباعه متعلّق الدين الإسلامي، وبني عليه قوله: {وأقوم للشهادة} لأن ما بعد امتثال أمر الله هو الشهادة بعد الكتابة، وجاء بقوله: {وأدنى ألا ترتابوا} أخيرا؛ لأن انتفاء الريبة مترتب على طاعة الله تعالى في الكتاب والإشهاد، فعنهما ينشأ أقربية انتفاء الريبة، إذ ذاك هو الغاية في أن لا يقع ريبة، وذاك لا يتحصل إلا بالكتب والإشهاد غالبا فيُثلج الصدر بما كتب وأشهد عليهً وما ضبط بالكتابة والإشهاد لا يكاد يقع فيه شك، ولا لبس، ولا نزاع.
وهذا يؤكد أن الترتيب ترتيب تصاعدي، فبدأ بالالتزام بأمر الله تعالى، إذ هو الأساس الذي يبنى عليه، وانتهى بنفي الريبة، إذ هي العلة الملاحظة من وراء كل هذه الضوابط.
فهذه الضمانات وإن كانت أوامر ينبغي السمع لها والطاعة، تعبدًا لله تعالى إلا أن من ورائها علة عظيمة، وهي سلامة المجتمع، والمحافظة على علاقاته وروابطه، وهذا ما أكدته جملة: {وأدنى ألا ترتابوا}.

.أسلوب الاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ}:

وهذه الجملة تبين أن التجارة الحاضرة بيوعها مستثناة من قيد الكتابة، وتكفي فيها شهادة الشهود؛ تيسيرًا للعمليات التجارية التي يعرقلها التقييد، والتي تتم في سرعة، وتتكرر في أوقات قصيرة؛ ذلك أن الإسلام وهو يشرع للحياة، قد راعى كل ملابساتها، وكان شريعةً عملية واقعية،لا تعقيد فيها ولا تعويق لجريان الحياة في مجراها.
ولكني ألحظ هنا في هذه العبارة دلالة أخرى خافية، وهي: لفت أنظار المؤمنين إلى التيسيرات في غير الديون، فالآية تعرض العوائق الكثيرة في شأن الديون، وتضع في الإطار نفسه الأبواب الميسرة،والطرق الممهدة، حتى تفر النفوس من عقبات الديون إلى تيسيرات البيع الناجز.
كما أن الجملة من باب الاستثناء المنقطع، حيث فَصَلَ كلام كثير بين المستثنى والمستثنى منه، وأصل جملة الاستثناء هي: {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلا أن تكون تجارة حاضرة}.
ومعنى الانقطاع هنا: أن التجارة الحاضرة ليست من باب الديون في شيء، لكن لمّا كانت في حاجة إلى توثيق عقد البيع، كما يوثق عقد الديون أُلحقت التجارة بالديون من وجه احتياجها إلى توثيق، لكن توثيق عقد البيع أقل كلفة وشروطًا من عقد المداينة.

.وجه البلاغة في وصف التجارة بالحضور والدوران:

يرى الزمخشري رحمه الله أن قوله: {حاضرة تديرونها بينكم} مفهوم من لفظ التجارة نفسها، ويسأل فيقول: فإن قلت ما معنى {تجارة حاضرة} وسواء كانت المبايعة بدين أو بعين، فالتجارة حاضرة؟
وما معنى إدارتها بينهم؟.
قلت: أريد بالتجارة ما يُتَّجر فيه من الأبدال، ومعنى إدارتها بينهم: تعاطيهم إياها يدًا بيد، والمعنى: إلا أن تتبايعوا بيعًا ناجزًا يدًا بيد، فلا بأس أن تكتبوه؛ لأنه لا يتوهم فيه ما يتوهم في التداين.
لكن هذا الاستفسار في حاجة إلى مراجعة فليست كل تجارة حاضرة، وبخاصة تلك الصفقات التجارية التي تعقد في الغرف المغلقة، وعن طريق الحاسبات الالكترونية.
كما أنه ليست كل تجارة حاضرة دائرة، فالدوران والحضور صفتان لازمتان لإباحة منع الكتابة.
أما الحضور فيعني وجود السلعة والثمن في مكان واحد، ويتم فيها البيع يدًا بيد.
وأما الدوران: فيعني التجارة السريعة، ولقد كان الفقهاء يقولون إنها ذات المطعومات، أو ذات الثمن القليل؛ لأن هذه هي الدائرة بين الناس، لكن اللفظ أعم من ذلك، وبخاصة في عالمنا المعاصر، وقد رأينا السلعة الواحدة تباع في المجلس الواحد أكثر من مرة، ولأكثر من شخص، وذلك في السوق المصرفي، أو ما يسمى بالبورصة، أو ما يطلق عليه المزاد العلني، فهذا الدوران للسلعة الواحدة يبيح ترك الكتابة، بل يستلزمها إذ لا يمكن الكتابة في مثل هذه المبايعات الحاضرة السريعة توسعة على الناس، ورفعًا للحرج.
وجملة: {تديرونها بينكم}؛ فيها استحضار لعملية الانتقال من تاجر إلى آخر، ومن ثالث إلى رابع، مما يصعب معه التوثيق.
وقوله: {بينكم} يعطي معنى اجتماعهم، وتداول البيع يدًا بيد، وانتفاء الحرج؛ لأن البيع قائم على الإيجاب والقبول.

.وجه اصطفاء النفي بليس في قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا}:

جاء في القرآن الكريم النفي بلا والنفي بليس فما الفرق؟
لقد جاء النفي بليس تسع مرات في حين ورد النفي بلا ست عشرة مرة.
وأول ما يُلحظ من خلال سياقات الآيات أن النفي بلا كائن في الأمور التكليفية؛ التي يظن فيها المكلف أن عليه جناحًا إذا فعلها؛ مثل قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158].
كما أنه كائن أيضًا في نفي الجناح المفيد للإباحة في مقابل الحظر، فكل ما يصدق عليه أنه جناح يكون منفيًا؛ وذلك نحو: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب:51].
ونحو: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ} [الأحزاب:55].
هذا بالإضافة إلى أن النفي بلا للجناح كائن في الغالب في الأمور التكليفية شديدة الحكم؛ أي التي يكون الحكم فيها واجبًا في مقابل محرَّم؛ كما في إقامة حدود الله تعالى، أو ركن في مقابل باطل، كما في السعي بين الصفا والمروة، أو مباح في مقابل محرم؛ كما في التعريض بخطبة النساء.

.النفي بليس:

أما النفي بليس: فهو كائن فيما ليس بذنب أصلًا، وعليه فإن نفي الجناح عنه لكمال التنزيه؛ نحو: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب:5].
والخطأ معفوُّ عنه في الأصل كما أنه كائن فيما لم يرد في مقابله نفي يُنهى عنه غالبًا.
هذا بالإضافة إلى أن ليس تنفي الوحدة، ولا تنفي الجنس مثل لا، ومن ثم فهي أضعف في النفي منها، وعليه يمكن فهم أن الجناح في قوله: {فليس عليكم جناح ألا تكتبوها} غير مقصور، أو غير متأكد في نفوسهم؛ لذلك جاء نفيه بليس دون لا.
وعند عرض الأسلوبين لبيان الفرق بينهما من خلال السياقات المتنوعة تبين أن جملة: {لا جناح عليكم} تأتي في سياق الأحكام والفرائض.
أما قوله: {وليس عليكم جناح} فإنها تأتي في سياق المباحات، وما يستحسن من الأمور.
فمن الأولى كتابة التجارة الحاضرة الدائرة بين المسلمين، وإن كان الحرج مرفوعًا.

.بلاغة التقديم في قوله تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم}:

وهذه الجملة: تشريع للإشهاد عند البيع، ولو بغير دين؛ إذا كان البيع تجارة حاضرة.
وهي إكمال لصورة المعاملة؛ فإنها إما تداين، أو آيل إلى التداين؛ كالبيع بدين وإما تناجز في تجارة، وإما تناجز في غير تجارة؛ كبيع العقار، والعروض في غير التُجْر.
والجملة هنا جملة شرطية تقدم فيها جواب الشرط علي الفعل والأداة، وهذا النمط من التركيب يفيد التوكيد للجواب؛ أعني التوكيد للإشهاد، لكن هذا التوكيد يحمل في معطفه شيئًا آخر، وهو الإشارة إلي كثرة التبايع، وشيوع ذلك بين الناس؛ فنَّبه بالتقديم على الإشهاد وأهميته وذلك نحو: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ}.
والأمر في {وأشهدوا} قال الطبري رحمه الله- بوجوبه، فعنده الإشهاد علي كل مبيع ومشترى حقٌ واجب وفرضٌ لازم؛ لأن كل أمر لله فرض، إلا ما قامت حجته من الوجه الذي يجب التسليم له بأنه ندب وإرشاد.
ولقد قال بالوجوب أيضًا جمعٌ من الصحابة والتابعين: ومن أشهرهم في ذلك عطاء؛ حيث قال: أشهد إذا بعت وإذا اشتريت بدرهم أو نصف درهم أو ثلث درهم، أو أقل من ذلك؛ فإن الله عز وجل يقول: {وأشهدوا إذا تبايعتم}.
وقال الطبري أيضًا: لا يحل لمسلم إذا باع وإذا اشتري إلا أن يشهد، وإلا كان مخالفًا كتاب الله عز وجل.
وهذا التوجه قد يكون مقبولًا في زمان آخر، لكن حركة البيع الآن والشراء يستحيل معها الإشهاد في كثير من الأحيان؛ إذ ليس من المعقول عند شراء قلم مثلًا أو كتاب أن أشهد اثنين، فهذا أمرٌ عسير، ولا أظن أن الآية ترمي إليه.
لكن الإشهاد قد يكون لازمًا عند مظنة النزاع، أو عند بيع الأشياء الثمينة التي يكتنفها الطمع.
وجاء الفعل الماضي بصيغة التفاعل؛ حيث قيل: {تبايعتم} وتلك الصيغة تحمل بعض الإيحاءات ومنها:
أن المجتمع المسلم عند تبايعه ينبغي أن يكفي نفسه أولًا، ولا يلتفت إلي المجتمعات الأخرى إلا بعد الاكتفاء الداخلي؛ لأن الفعل قال: {تبايعتم} وهذا توجيه إلي إقامة سوق إسلامية.
ومنها: الإشارة إلي تراضي الطرفين وقد ذكر الزهري عن عمارة بن خزيمة أن عمّه حدثه- وهو من أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم- أن النبي صلي الله عليه وسلم ابتاع فرسًا من أعرابي، فاستتبعه النبي صلي الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومون في الفرس، ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ابتاعه، حتى زاد بعضهم في السوم على ثمن الفرس، فنادى الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن كنت مبتاعا هذا الفرس فابتعه وإلا بعته.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي: أوليس قد ابتعته منك؟!
فقال الأعرابي: لا والله ما بعتك.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل قد ابتعته منك.
فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وسلم والأعرابي وهما يتراجعان.
فطفق الأعرابي يقول: هلم شهيدًا يشهد أن بعتك.
قال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بعته.
فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: بم تشهد؟
فقال بتصديقك يا رسول الله.
فجعل رسول الله شهادة خزيمة بشهادة رجلين.
وفي هذا ما يؤكد أهمية الشهادة في الأمور التي يمكن النزاع فيها.