فصل: (كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير للعاجز الفقير



.(فَصْلٌ): حكم شاهد الزور:

(قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: شَاهِدُ الزُّورِ أُشَهِّرُهُ فِي السُّوقِ وَلَا أُعَزِّرُهُ. وَقَالَا: نُوجِعُهُ ضَرْبًا وَنَحْبِسُهُ) وَهُوَ قول الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ.
لَهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَسَخَّمَ وَجْهَهُ وَلِأَنَّ هَذِهِ كَبِيرَةٌ يَتَعَدَّى ضَرَرُهَا إلَى الْعِبَادِ وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزَّرُ.
وَلَهُ أَنَّ شُرَيْحًا كَانَ يُشَهِّرُ وَلَا يَضْرِبُ، وَلِأَنَّ الِانْزِجَارَ يَحْصُلُ بِالتَّشْهِيرِ فَيَكْتَفِي بِهِ، وَالضَّرْبُ وَإِنْ كَانَ مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ وَلَكِنَّهُ يَقَعُ مَانِعًا عَنْ الرُّجُوعِ فَوَجَبَ التَّخْفِيفُ نَظَرًا إلَى هَذَا الْوَجْهِ.
وَحَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى السِّيَاسَةِ بِدَلَالَةِ التَّبْلِيغِ إلَى الْأَرْبَعِينَ وَالتَّسْخِيمِ ثُمَّ تَفْسِيرُ التَّشْهِيرِ مَنْقول عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يَبْعَثُهُ إلَى سُوقِهِ إنْ كَانَ سُوقِيًّا، وَإِلَى قَوْمِهِ إنْ كَانَ غَيْرَ سُوقِيٍّ بَعْدَ الْعَصْرِ أَجْمَعَ مَا كَانُوا، وَيَقول: إنَّ شُرَيْحًا يُقْرِئُكُمْ السَّلَامَ وَيَقول: إنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ وَحَذِّرُوا النَّاسَ مِنْهُ.
وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُشَهَّرُ عِنْدَهُمَا أَيْضًا.
وَالتَّعْزِيرُ وَالْحَبْسُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَاهُ الْقَاضِي عِنْدَهُمَا، وَكَيْفِيَّةُ التَّعْزِيرِ ذَكَرْنَاهُ فِي الْحُدُودِ (وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: شَاهِدَانِ أَقَرَّا أَنَّهُمَا شَهِدَا بِزُورٍ لَمْ يُضْرَبَا وَقَالَا يُعَزَّرَانِ) وَفَائِدَتُهُ أَنَّ شَاهِدَ الزُّورِ فِي حَقِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحُكْمِ هُوَ الْمُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ، فَأَمَّا لَا طَرِيقَ إلَى إثْبَاتِ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِلشَّهَادَةِ وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشَّرْحُ:
(فَصْلٌ) حكم شاهد الزور:
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: (شَاهِدُ الزُّورِ إلَخْ) أَخَّرَ حُكْمَ شَهَادَةِ الزُّورِ لِأَنَّهَا خِلَافُ الْأَصْلِ، إذْ الْأَصْلُ الصِّدْقُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْفِطْرَةِ كَوْنُهَا عَلَى الْحَقِّ وَالِانْحِرَافُ عَنْهُ لِعَارِضٍ مِنْ قِبَلِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ، وَشَاهِدُ الزُّورِ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِإِقْرَارِهِ بِذَلِكَ وَلَا يُحْكَمُ بِهِ بِرَدِّ شَهَادَتِهِ لِمُخَالَفَتِهِ الدَّعْوَى أَوْ الشَّاهِدَ الْآخَرَ أَوْ تَكْذِيبُ الْمُدَّعِي لَهُ إذْ قَدْ يَكُونُ مُحِقًّا فِي الْمُخَالَفَةِ أَوْ لِلْمُدَّعِي غَرَضٌ فِي أَذَاهُ.
وَزَادَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنْ يَشْهَدَ بِمَوْتِ وَاحِدٍ فَيَجِيءَ حَيًّا، وَلَوْ قَالَ غَلِطْت أَوْ ظَنَنْت ذَلِكَ قِيلَ هُمَا بِمَعْنَى كَذَبْت لِإِقْرَارِهِ بِالشَّهَادَةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ شَاهِدَ زُورٍ.
فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُعَزَّرُ بِتَشْهِيرِهِ عَلَى الْمَلَإِ فِي الْأَسْوَاقِ لَيْسَ غَيْرُ (وَقَالَا: نُوجِعُهُ ضَرْبًا وَنَحْبِسُهُ) فَصَارَ مَعْنَى قولهِ وَلَا أُعَزِّرُهُ لَا أَضُرُّ بِهِ.
فَالْحَاصِلُ الِاتِّفَاقُ عَلَى تَعْزِيرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ اكْتَفَى بِتَشْهِيرِ حَالِهِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ الضَّرْبِ خُفْيَةً أَوْ هُمَا أَضَافَا إلَى ذَلِكَ الضَّرْبَ وَالْحَبْسَ وَبِقولهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ.
وَمَالِكٌ (لَهُمَا مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا) رَوَاهُ ابْن أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَالِدٍ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي مَالِكٍ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ بِالشَّامِ أَنَّ شَاهِدَ الزُّورِ يُضْرَبُ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَيُسَخَّمُ وَجْهُهُ وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ وَيُطَالُ حَبْسُهُ.
وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا.
وَقَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ الْعَلَاءِ.
أَخْبَرَنِي أَبُو الْأَحْوَصِ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَرَ بِشَاهِدِ الزُّورِ أَنْ يُسَخَّمَ وَجْهُهُ وَتُلْقَى عِمَامَتُهُ فِي عُنُقِهِ وَيُطَافُ بِهِ فِي الْقَبَائِلِ.
فَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ مِمَّنْ يَرَى تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ ظَاهِرٌ، أَمَّا مَنْ لَا يَرَاهُ فَبِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَدَمُ النَّكِيرِ فِيمَا فَعَلَ عُمَرُ فَكَانَ إجْمَاعًا، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْإِنْكَارَ لَا يُتَّجَهُ فِيمَا طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّهُ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ النَّكِيرُ عَلَى مُجْتَهِدٍ فِي مَحَلِّ اجْتِهَادِهِ فَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا السُّكُوتِ.
وَالثَّانِي أَنَّهُ أَتَى كَبِيرَةً مِنْ الْكَبَائِرِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ قَالَ: أَلَا وَقول الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَا يَسْكُتُ» وَقَرَنَ تَعَالَى بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشِّرْكِ فَقَال: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قول الزُّورِ» وَإِذَا كَانَتْ كَبِيرَةً وَلَيْسَ فِيهَا تَقْدِيرٌ شَرْعِيٌّ فَفِيهَا التَّعْزِيرُ، وَهَذَا لَا يَنْتَهِضُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَقْتَضِي التَّعْزِيرَ وَهُوَ لَا يَنْفِيهِ، بَلْ قَالَ بِهِ عَلَى مَا حَقَقْنَاهُ لَكِنَّهُ يَنْفِي الزِّيَادَةَ فِيهِ بِالضَّرْبِ.
وَالْحَقُّ أَنَّهُ يَنْتَهِضُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَنْفِي ضَرْبَهُ وَهُمَا يُثْبِتَانِهِ، فَإِنْ كَانَ الضَّرْبُ زِيَادَةً فِي التَّعْزِيرِ فَلْيَكُنْ إذْ قَدْ ثَبَتَتْ الزِّيَادَةُ فِيهِ بِهِ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ شُرَيْحًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُشَهِّرُ وَلَا يَضْرِبُ) رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ: أَنَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ الْهَيْثَمِ بْنِ أَبِي الْهَيْثَمِ عَمَّنْ حَدَّثَهُ عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ كَانَ إذَا أَخَذَ شَاهِدَ الزُّورِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السُّوقِ قَالَ لِلرَّسُولِ قُلْ لَهُمْ إنَّ شُرَيْحًا يُعَرِّفُكُمْ وَيَقول لَكُمْ إنَّا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدَ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْعَرَبِ أَرْسَلَ بِهِ إلَى مَجْلِسِ قَوْمِهِ أَجْمَعَ مَا كَانُوا فَقَالَ لِلرَّسُولِ مِثْلَ مَا قَالَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى.
وَنَحْوُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ قَالَ: كَانَ شُرَيْحُ يَبْعَثُ شَاهِدَ الزُّورِ إلَى مَسْجِدِ قَوْمِهِ أَوْ إلَى السُّوقِ وَيَقول إنَّا زَيَّفْنَا شَهَادَةَ هَذَا.
وَفِي لَفْظٍ: كَانَ يَكْتُبُ اسْمَهُ عِنْدَهُ.
وَقَالَ الْخَصَّافُ فِي أَدَبِ الْقَاضِي: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ قَالَ: كَانَ شُرَيْحُ يَبْعَثُ بِشَاهِدِ الزُّورِ فَأَدْخَلَ بَيْنَ وَكِيعٍ وَأَبِي حُصَيْنٍ سُفْيَانَ.
وَقَدْ يُقَالُ: لَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ لَمْ يَضُرَّ بِهِ بَلْ لِأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ، وَلَا يَنْفِي هَذَا أَنْ يَقول مَعَ شَيْءٍ آخَرَ.
ثُمَّ وَجَدْنَا هَذَا الْمُحْتَمَلَ مَرْوِيًّا.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقُ: أَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ الْجَعْدِ بْنِ ذَكْوَانَ قَالَ: أُتِيَ شُرَيْحُ بِشَاهِدِ زُورٍ فَنَزَعَ عِمَامَتَهُ عَنْ رَأْسه وَخَفَقَهُ بِالدُّرَّةِ خَفَقَاتٍ وَبَعَثَ بِهِ إلَى مَسْجِدٍ يَعْرِفُهُ النَّاسُ، غَيْرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقول: إنْ فَرَضْنَا أَنَّهُ وَقَعَ الضَّرْبُ وَقَدْ قُلْنَا إنَّهُ إنَّمَا يُعْرَفُ شَاهِدُ الزُّورِ بِإِقْرَارِهِ فَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَدْرِيَ شَاهِدُ الزُّورِ الرَّاجِحُ أَنَّهُ يَفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ، فَقَدْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يُحْبَسُ وَلَا يُضْرَبُ فَرَجَعَ، فَحِينَ تَرَتَّبَ عَلَى رُجُوعِهِ الضَّرْبُ وَصَارَ ذَلِكَ مُسْتَقِرًّا فِي النُّفُوسِ يَكُونُ صَارِفًا لَهُ عَنْ الرُّجُوعِ وَحَامِلًا عَلَى التَّمَادِي فَوَجَبَ أَنْ يُتْرَكَ وَيُكْتَفَى بِمَا ذَكَرْت مِنْ التَّعْزِيرِ، هَذَا بَعْدَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ كَانَ مِمَّنْ كَانَ مِنْهُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ لَا بِالنَّقْلِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَازَ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي نَفْيِهِ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ مَعْنًى آخَرَ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ ضَرْبِ عُمَرَ وَالتَّسْخِيمِ كَانَ سِيَاسَةً، فَإِذَا رَأَى الْحَاكِمُ ذَلِكَ مَصْلَحَةً كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَقَدْ يُرَدُّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ كِتَابِ عُمَرَ بِهِ إلَى عُمَّالِهِ فِي الْبِلَادِ.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال عَلَى السِّيَاسَةِ بِالتَّبْلِيغِ إلَى الْأَرْبَعِينَ وَلَا يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ إلَى الْحُدُودِ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُجِيزُهُ، وَقَدْ أَجَازَ عَالَمُ الْمَذْهَبِ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَبْلُغَ بِهِ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ وَتِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ فَجَازَ كَوْنُ رَأْيِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَذَلِكَ.
وَأَمَّا كَوْنُ التَّسْخِيمِ مُثْلَةً مَنْسُوخَةً فَقَدْ يَكُونُ رَأْيُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمُثْلَةَ لَيْسَتْ إلَّا فِي قَطْعِ الْأَعْضَاءِ وَنَحْوِهِ مِمَّا يُفْعَلُ فِي الْبَدَنِ وَيَدُومُ، لَا بِاعْتِبَارِ عَرَضٍ يُغْسَلُ فَيَزُولُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ قِيلَ إنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إنْ رَجَعَ عَلَى سَبِيلِ الْإِصْرَارِ مِثْلُ أَنْ يَقول لَهُمْ شَهِدْت فِي هَذِهِ بِالزُّورِ وَلَا أَرْجِعُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ رَجَعَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبَةِ لَا يُعَزَّرُ اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ حَالُهُ فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ.
وَقِيلَ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ.
فَجَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي التَّائِبِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّعْزِيرِ الِانْزِجَارُ وَقَدْ انْزَجَرَ بِدَاعِي اللَّهِ تَعَالَى.
وَجَوَابُهُمَا فِيمَنْ لَمْ يَتُبْ وَلَا يُخَالِفُ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَالتَّسْخِيمِ بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى قولهِ بِدَلَالَةِ التَّبْلِيغِ: يُقَالُ سَخَّمَ وَجْهَهُ، إذَا سَوَّدَهُ مِنْ السُّخَامِ وَهُوَ سَوَادُ الْقِدْرِ، وَقَدْ جَاءَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ مِنْ الْأَسْحَمِ وَهُوَ الْأَسْوَدُ.
وَفِي الْمُغْنِي: وَلَا يُسَحَّمُ وَجْهُهُ بِالْخَاءِ وَالْحَاءِ.

.(كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ):

(قَالَ: إذَا رَجَعَ الشُّهُودُ عَنْ شَهَادَتِهِمْ قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا سَقَطَتْ) لِأَنَّ الْحَقَّ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَاضِي لَا يَقْضِي بِكَلَامٍ مُتَنَاقِضٍ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا مَا أَتْلَفَا شَيْئًا لَا عَلَى الْمُدَّعِي وَلَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ (فَإِنْ حَكَمَ بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا لَمْ يُفْسَخْ الْحُكْمُ) لِأَنَّ آخِرَ كَلَامِهِمْ يُنَاقِضُ أَوَّلَهُ فَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ بِالتَّنَاقُضِ وَلِأَنَّهُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الصِّدْقِ مِثْلُ الْأَوَّلِ، وَقَدْ تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ (وَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ) لِإِقْرَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِسَبَبِ الضَّمَانِ، وَالتَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ، وَسَنُقَرِّرُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ) لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِلشَّهَادَةِ فَيَخْتَصُّ بِمَا تَخْتَصُّ بِهِ الشَّهَادَةُ مِنْ الْمَجْلِسِ وَهُوَ مَجْلِسُ الْقَاضِي أَيَّ قَاضٍ كَانَ، وَلِأَنَّ الرُّجُوعَ تَوْبَةٌ وَالتَّوْبَةُ عَلَى حَسَبِ الْجِنَايَةِ، فَالسِّرُّ بِالسِّرِّ وَالْإِعْلَانُ بِالْإِعْلَانِ.
وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الرُّجُوعُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَلَوْ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ رُجُوعَهُمَا وَأَرَادَ يَمِينَهُمَا لَا يَحْلِفَانِ، وَكَذَا لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ ادَّعَى رُجُوعًا بَاطِلًا، حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَجَعَ عِنْدَ قَاضِي كَذَا وَضَمَّنَهُ الْمَالَ تُقْبَلُ لِأَنَّ السَّبَبَ صَحِيحٌ.
الشَّرْحُ:
(كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ):
لَمَّا كَانَ هَذَا إيجَابَ رَفْعِ الشَّهَادَةِ وَمَا تَقَدَّمَ إيجَابَ إثْبَاتِهَا فَكَانَا مُتَوَازِيَيْنِ فَتَرْجَمَ هَذَا بِالْكِتَابِ كَمَا تَرْجَمَ ذَاكَ لِلْمُوَازَاةِ بَيْنَهُمَا، وَإِلَّا فَلَيْسَ لِهَذَا أَبْوَابٌ لِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِ مَسَائِلِهِ لِيَكُونَ كِتَابًا كَمَا لِذَلِكَ وَلِتَحَقُّقِهِ بَعْدَ الشَّهَادَةِ، إذْ لَا رَفْعَ إلَّا بَعْدَ الْوُجُودِ نَاسَبَ أَنْ يَجْعَلَ تَعْلِيمَهُ بَعْدَهُ، كَمَا أَنَّ وُجُودَهُ بَعْدَهُ وَخُصُوصَ مُنَاسَبَتِهِ لِشَهَادَةِ الزُّورِ هُوَ أَنَّ الرُّجُوعَ لَا يَكُونُ غَالِبًا إلَّا لِتَقَدُّمِهَا عَمْدًا أَوْ خَطَأً.
قولهُ: (إذَا رَجَعَ الشُّهُودُ عَنْ الشَّهَادَةِ سَقَطَتْ) عَنْ الِاعْتِبَارِ فَلَا يُقْضَى بِهَا لِأَنَّ كَلَامَهُمْ تَنَاقَضَ حَيْثُ قَالُوا نَشْهَدُ بِكَذَا لَا نَشْهَدُ بِهِ وَلَا يُقْضَى بِالْمُتَنَاقِضِ، وَلِأَنَّهُ أَيْ كَلَامَهُ الَّذِي نَاقَضَ لَهُ وَهُوَ الْمُتَأَخِّرُ فِي احْتِمَالِهِ الصِّدْقَ كَالْأَوَّلِ، فَلَيْسَ الْقَضَاءُ بِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ أَوْلَى بِهِ مِنْ الْآخَرِ فَوَقَفَ كُلٌّ مِنْهُمَا.
قَالُوا: وَيُعَزِّرُ الشُّهُودَ سَوَاءً رَجَعُوا قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ، وَلَا يَخْلُو عَنْ نَظَرٍ لِأَنَّ الرُّجُوعَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ تَوْبَةٌ عَنْ الزُّورِ إنْ تَعَمَّدَهُ، أَوْ التَّهَوُّرِ وَالْعَجَلَةِ إنْ كَانَ أَخْطَأَ فِيهِ، وَلَا تَعْزِيرَ عَلَى التَّوْبَةِ وَلَا عَلَى ذَنْبٍ ارْتَفَعَ بِهَا وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ.
قولهُ: (وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ) لِأَنَّهُمْ لَمْ يُتْلِفُوا شَيْئًا عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ.
قولهُ: (فَإِنْ حُكِمَ إلَخْ) إذَا رَجَعُوا قَبْلَ الْحُكْمِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ رَجَعُوا بَعْدَهُ لَمْ يُفْسَخْ الْحُكْمُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ كَلَامِهِمْ الْأَوَّلِ، وَلَا الْأَوَّلُ أَوْلَى مِنْ الثَّانِي فَتَعَارَضَا، وَلَا تَرْجِيحَ قَبْلَ الْحُكْمِ لِأَحَدِ الْكَلَامَيْنِ فَلَا يُحْكَمُ بِأَحَدِهِمَا، وَبَعْدَهُ تَرَجَّحَ الْأَوَّلُ لِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ لِأَنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِحُكْمِهِ وَقَعَ فِي حَالٍ لَا مُعَارِضَ لَهُ فِيهِ فَلَا يُنْقَضُ الْأَقْوَى بِالْأَدْنَى، لَكِنَّ عَلَيْهِمْ ضَمَانَ مَا أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانُوا مُتْلِفِينَ بِسَبَبِ لُزُومِ حُكْمِ شَهَادَتِهِمْ: أَعْنِي اتِّصَالَ الْقَضَاءِ الَّذِي لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ وَبِالرُّجُوعِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا يُنْقَضُ الْقَضَاءُ بِهِ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ تَسَبُّبَهُمْ فِي ذَلِكَ الْإِتْلَافِ كَانَ تَعَدِّيًا لِأَنَّهُ وَقَعَ عَلَى خِلَافِ الْحَقِّ، وَالتَّسَبُّبُ فِي الْإِتْلَافِ تَعَدِّيًا سَبَبٌ لِلضَّمَانِ.
وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوَّلًا يَقول: يَنْظُرُ إلَى حَالِ الشُّهُودِ، إنْ كَانَ حَالُهُمْ عِنْدَ الرُّجُوعِ أَفْضَلَ مِنْ حَالِهِمْ وَقْتَ الْأَدَاءِ فِي الْعَدَالَةِ صَحَّ رُجُوعُهُمْ فِي حَقِّ نَفْسِهِمْ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمْ فَيُعَزَّرُونَ وَيُنْقَضُ الْقَضَاءُ وَيُرَدُّ الْمَالُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانُوا عِنْدَ الرُّجُوعِ كَحَالِهِمْ عِنْدَ الْأَدَاءِ أَوْ دُونَهُ يُعَزَّرُونَ، وَلَا يُنْقَضُ الْقَضَاءُ، وَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الشَّاهِدِ.
وَهَذَا قول أُسْتَاذِهِ حَمَّادِ بْنِ سُلَيْمَانَ.
ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، فَلَا يُنْقَضُ الْقَضَاءُ وَلَا يُرَدُّ الْمَالُ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا وَهُوَ قولهُمَا.
قولهُ: (وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ) سَوَاءً كَانَ هُوَ الْقَاضِيَ الْمَشْهُودَ عِنْدَهُ أَوْ غَيْرَهُ، وَزَادَ جَمَاعَةٌ فِي صِحَّةِ الرُّجُوعِ أَنْ يَحْكُمَ الْقَاضِي بِرُجُوعِهِمَا وَيُضَمِّنَهُمَا الْمَالَ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ حَيْثُ قَالَ: (وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي، فَلَوْ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ رُجُوعَهُمَا وَأَرَادَ يَمِينَهُمَا) أَنَّهُمَا لَمْ يَرْجِعَا (لَا يَحْلِفَانِ وَكَذَا) لَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى هَذَا الرُّجُوعِ (لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ ادَّعَى رُجُوعًا بَاطِلًا) وَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ وَإِلْزَامُ الْيَمِينِ لَا تُقْبَلُ إلَّا عَلَى دَعْوًى صَحِيحَةٍ.
ثُمَّ قَالَ: (حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَجَعَ عِنْدَ قَاضِي كَذَا وَضَمَّنَهُ الْمَالَ تُقْبَلُ) فَهَذَا ظَاهِرٌ فِي تَقْيِيدِ صِحَّةِ الرُّجُوعِ بِذَلِكَ، وَنُقِلَ هَذَا عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ.
وَاسْتَبْعَدَ بَعْضُهُمْ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ تَوَقُّفَ صِحَّةِ الرُّجُوعِ عَلَى الْقَضَاءِ بِالرُّجُوعِ وَبِالضَّمَانِ، وَتَرَكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مُصَنِّفِي الْفَتَاوَى هَذَا الْقَيْدَ، وَذَكَرَ أَنَّهُ إمَّا تَرَكَهُ تَعْوِيلًا عَلَى هَذَا الِاسْتِبْعَادِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْمَجْلِسِ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ شَاهِدٌ بِالرُّجُوعِ فِي غَيْرِ الْمَجْلِسِ وَأَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ بِهِ وَبِالْتِزَامِ الْمَالِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ إذَا تَصَادَقَا أَنَّ لُزُومَ الْمَالِ عَلَيْهِ كَانَ بِهَذَا الرُّجُوعِ، وَلَوْ أَقَرَّ فِي مَجْلِسِ قَاضٍ أَنَّهُ رَجَعَ عِنْدَ قَاضِي كَذَا صَحَّ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ هَذَا رُجُوعًا عِنْدَ هَذَا الْقَاضِي لَا الَّذِي أَسْنَدَ رُجُوعَهُ إلَيْهِ، وَلَوْ رَجَعَا عِنْدَ الْقَاضِي ثُمَّ جَحَدَ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِمَا وَيَقْضِي بِالضَّمَانِ عَلَيْهِمَا.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ لِاشْتِرَاطِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ فِي صِحَّةِ الرُّجُوعِ وَجْهَيْنِ: أَوَّلُهُمَا أَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخٌ لِلشَّهَادَةِ، فَكَمَا اُشْتُرِطَ لِلشَّهَادَةِ الْمَجْلِسُ كَذَلِكَ لِفَسْخِهَا، وَعَلَى الْمُلَازَمَةِ مَنْعٌ ظَاهِرٌ مَعَ إبْدَاءِ الْفَرْقِ بِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْمَجْلِسِ لِيُتَصَوَّرَ الْأَدَاءُ عِنْدَهُ بِالضَّرُورَةِ، بِخِلَافِ الرُّجُوعِ لِأَنَّ حَاصِلَهُ الْإِقْرَارُ عَلَى نَفْسِهِ يَتَحَقَّقُ سَبَبُ الضَّمَانِ مِنْهُ، وَالْإِقْرَارُ بِالضَّمَانِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ.
وَأَجَابَ فِي النِّهَايَةِ بِأَنَّ مَا شُرِطَ لِلِابْتِدَاءِ شُرِطَ لِلْبَقَاءِ كَالْبَيْعِ فَإِنَّهُ شُرِطَ فِيهِ وُجُودُ الْمَبِيعِ فَكَذَا فِي فَسْخِهِ، أَوْ هَذَا أَيْضًا مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْمُلَازَمَةِ مَعَ أَنَّ الِاتِّفَاقَ أَنَّ شَرْطَ ذَلِكَ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ إنَّمَا هُوَ لِيَثْبُتَ حُكْمُ الْفَسْخِ وَهُوَ التَّرَادُّ، وَالتَّرَادُّ يَتَوَقَّفُ عَلَى قِيَامِهِ، بِخِلَافِ حُكْمِ الرُّجُوعِ فَإِنَّهُ الضَّمَانُ، وَيُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مَعَ ثُبُوتِهِ دُونَ الْمَجْلِسِ.
ثُمَّ هُوَ قَدْ أَوْرَدَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ شَرْطَ الِابْتِدَاءِ شَرْطُ الْبَقَاءِ فِي السَّلَمِ حَيْثُ يُشْتَرَطُ لِابْتِدَائِهِ حُضُورُ رَأْسِ الْمَالِ دُونَ فَسْخِهِ.
وَأَجَابَ بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ ذَلِكَ لِأَمْرٍ يَخُصُّ الِابْتِدَاءَ لَا يُوجَدُ فِي الْبَقَاءِ وَهُوَ كَيْ لَا يَلْزَمَ الِافْتِرَاقُ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ وَذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي فَسْخِهِ فَلِذَا لَمْ يُشْتَرَطْ فِي فَسْخِهِ مَا شُرِطَ فِي ابْتِدَائِهِ، وَهَذَا نَحْوُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ شَرْطَ الْمَجْلِسِ ابْتِدَاءٌ لِيُتَصَوَّرَ الْأَدَاءُ بِخِلَافِ الْفَسْخِ.
ثُمَّ تَمْهِيدُ الْجَوَابِ بِأَنَّ مَا شُرِطَ لِلِابْتِدَاءِ شُرِطَ لِلْبَقَاءِ لَا يُنَاسِبُ مَا نَحْنُ فِيهِ وَهُوَ الرَّفْعُ.
نَعَمْ الرَّفْعُ يُرَدُّ عَلَى حَالَةِ بَقَاءِ أَثَرِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحُكْمُ بِهَا، وَلَوْ تَسَهَّلْنَا إلَى جَعْلِ ذَلِكَ بَقَاءَ نَفْسِ الشَّهَادَةِ لَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُ مَجْلِسِ الْحُكْمِ شَرْطًا لِبَقَاءِ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ أَرْخَيَا الْعَنَانَ فِي الْآخَرِ فَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَشْرُوطُ لِلْبَقَاءِ الْمَجْلِسَ الْأَوَّلَ الَّذِي كَانَ شَرْطًا لِلْأَدَاءِ، وَالْمَجْلِسُ الْمَشْرُوطُ هُنَا مَجْلِسٌ آخَرُ.
وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ فِي وَجْهِهِ أَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخٌ وَنَقْضٌ لِلشَّهَادَةِ فَكَانَ مُقَابِلًا لَهَا فَاخْتَصَّ بِمَوْضِعِ الشَّهَادَةِ، وَمَنْعُ الْمُلَازَمَةِ فِيهِ ظَاهِرٌ فَبَيَّنَهُ بِأَنَّ السَّوَادَ وَالْبَيَاضَ لَمَّا كَانَا مُتَضَادَّيْنِ اُشْتُرِطَ لِلتَّضَادِّ اتِّحَادُ الْمَحَلِّ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ اتِّحَادَ الْمَحَلِّ إنَّمَا هُوَ شَرْطُ امْتِنَاعِ اجْتِمَاعِ الْمُتَضَادَّيْنِ لَا شَرْطٌ لِكُلٍّ مِنْ الْمُتَضَادَّيْنِ فِي نَفْسِهِ، كَمَا أَنَّ مَجْلِسَ شَرْطٍ لِكُلٍّ مِنْ الشَّهَادَةِ وَنَقْضِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الرُّجُوعَ تَوْبَةٌ عَنْ ذَنْبِ الْكَذِبِ وَكَانَ ذَلِكَ الذَّنْبُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَتَخْتَصُّ التَّوْبَةُ عَنْهُ بِمَجْلِسِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ أَيْضًا غَيْرُ لَازِمٍ فِيهِ فَبَيَّنُوا لَهُ مُلَازَمَةً شَرْعِيَّةً بِحَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ أَوْصِنِي، فَقَالَ: «عَلَيْك بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى مَا اسْتَطَعْت»، إلَى أَنْ قَالَ: «وَإِذَا عَمِلْت شَرًّا فَأَحْدِثْ تَوْبَةَ السِّرِّ بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةَ بِالْعَلَانِيَةِ» وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْعَلَانِيَةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِعْلَانِ فِي مَحَلِّ الذَّنْبِ بِخُصُوصِهِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ بَلْ فِي مِثْلِهِ مِمَّا فِيهِ عَلَانِيَةٌ وَهُوَ إذَا أَظْهَرَ الرُّجُوعَ لِلنَّاسِ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَيْهِ وَبَلَغَ ذَلِكَ الْقَاضِي بِالْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ كَيْ لَا يَكُونَ مُعْلِنًا.

متن الهداية:
(وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِمَالٍ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِهِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الْمَالَ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ) لِأَنَّ التَّسْبِيبَ عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي سَبَّبَ الضَّمَانَ كَحَافِرِ الْبِئْرِ وَقَدْ سَبَّبَا لِلْإِتْلَافِ تَعَدِّيًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَا يَضْمَنَانِ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلتَّسْبِيبِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُبَاشَرَةِ.
قُلْنَا: تَعَذَّرَ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُبَاشِرِ وَهُوَ الْقَاضِي لِأَنَّهُ كَالْمَلْجَإِ إلَى الْقَضَاءِ، وَفِي إيجَابِهِ صَرْفُ النَّاسِ عَنْ تَقَلُّدِهِ وَتَعَذُّرُ اسْتِيفَائِهِ مِنْ الْمُدَّعِي لِأَنَّ الْحُكْمَ مَاضٍ فَاعْتُبِرَ التَّسْبِيبُ، وَإِنَّمَا يَضْمَنَانِ إذَا قَبَضَ الْمُدَّعِي الْمَالَ دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا، لِأَنَّ الْإِتْلَافَ بِهِ يَتَحَقَّقُ، لِأَنَّهُ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ أَخْذِ الْعَيْنِ وَإِلْزَامِ الدَّيْنِ.
قَالَ: (فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا ضَمِنَ النِّصْفَ) وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي هَذَا بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ لَا رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ وَقَدْ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ نِصْفُ الْحَقِّ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِمَالٍ فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِهِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الْمَالَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ) وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا مُسَبِّبَانِ وَلَا عِبْرَةَ بِالتَّسَبُّبِ، وَإِنْ كَانَ تَعَدِّيًا مَعَ وُجُودِ الْمُبَاشَرَةِ.
قُلْنَا: الْمُبَاشِرُ الْقَاضِي وَالْمُدَّعِي.
وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْقَاضِي اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ كَالْمَلْجَإِ إلَى مُبَاشَرَةِ الْقَضَاءِ الَّذِي بِهِ الْإِتْلَافُ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ بِافْتِرَاضِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ، وَإِذَا أَلْجَأَهُ الشَّرْعُ لَا يَضْمَنُهُ، وَلِأَنَّهُ يُوجِبُ عَدَمَ قَبُولِ الْقَضَاءِ مِنْ أَحَدٍ.
وَأَمَّا الْمُدَّعِي فَلِأَنَّهُ أَخَذَ بِحَقٍّ ظَاهِرٍ مَاضٍ لِأَنَّ خَبَرَ الرُّجُوعِ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ الْأَوَّلِ لِيَنْقُضَ الْحُكْمَ، وَإِذَا لَمْ يَنْقُضْ لَا يُمْكِنُ جَبْرُهُ عَلَى إعْطَاءِ مَا أَخَذَ بِذَلِكَ الْوَجْهِ الْمَاضِي شَرْعًا.
وَإِذَا تَعَذَّرَ الْإِيجَابُ عَلَى الْمُبَاشِرِ تَعَيَّنَ عَلَى الْمُتَعَدِّي بِالتَّسَبُّبِ كَحَافِرِ الْبِئْرِ فِي الطَّرِيقِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْإِمَامِ وَالْعِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الشُّهُودَ يَضْمَنُونَ كَمَذْهَبِنَا، وَالْقول الْآخَرُ لَا يَنْقُضُ.
وَلَا يَرُدُّ الْمَالَ مِنْ الْمُدَّعِي وَلَا يَضْمَنُ الشُّهُودُ وَهُوَ عَيْنُ قول أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ إذَا كَانَ حَالُهُمَا وَقْتَ الرُّجُوعِ مِثْلَهُ عِنْد الْأَدَاءِ.
وَقَدْ نُقِضَ عَلَيْهِ أَيْضًا بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَى الشُّهُودِ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ قَتْلِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مَعَ وُجُودِ الْمُبَاشِرِ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْمُقْتَصُّ وَالْقَاضِي.
وَأُجِيبُ عَنْهُ بِأَنَّ ذَلِكَ لِدَلِيلٍ خَاصٍّ وَهُوَ قول عَلِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِشَاهِدَيْ السَّرِقَةِ بَعْدَمَا قَطَعَ وَرَجَعُوا وَجَاءُوا بِآخَرَ وَقَالُوا هَذَا الَّذِي سَرَقَ: لَوْ عَلِمْت أَنَّكُمَا تَعَدَّيْتُمَا لَقَطَعْت أَيْدِيَكُمَا، أَخْرَجَهُ الشَّافِعِيُّ وَقَالَ: بِهَذَا الْقول نَقول.
فَإِنْ نُوقِضَ بِأَنَّهُ لَا يَرَى تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ أَمْكَنَ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنِّي إنَّمَا قُلْت بِهِ لِمَا ظَهَرَ مِنْ مَنَاطِهِ مِنْ أَنَّ أَمْرَ الدَّمِ أَشَدُّ مِنْ أَمْرِ الْمَالِ.
قُلْنَا: الْأَشَدِّيَّةُ لَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهَا عَلَى ثُبُوتِ الضَّمَانِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا لِجَوَازِهِ بِاعْتِبَارِ أَمْرِ الْآخِرَةِ، ثُمَّ مَتَى يُقْضَى بِالضَّمَانِ عَلَى الشَّاهِدِ؟.
قَالَ الْمُصَنِّفُ (إذَا قَبَضَ الْمُدَّعِي الْمَالَ دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا) لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ إتْلَافٍ وَالْإِتْلَافُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِأَخْذِهِ مِنْهُ، وَهَذَا اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ.
وَفَرَّقَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بَيْنَ كَوْنِ الْمَشْهُودِ بِهِ عَيْنًا فَيَضْمَنَانِ قَبْلَ قَبْضِ الْمُدَّعِي إيَّاهَا بَعْدَ الْقَضَاءِ لَهُ بِهَا أَوْ دَيْنًا فَلَا يَضْمَنَانِ حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُدَّعِي.
وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ ضَمَانَهُمَا ضَمَانُ إتْلَافٍ، وَضَمَانُ الْإِتْلَافِ مُقَيَّدٌ بِالْمُمَاثَلَةِ، فَإِذَا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ عَيْنًا فَالشَّاهِدَانِ وَإِنْ أَزَالَاهُ عَنْ مِلْكِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمَا عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا حَتَّى لَا يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ، فَلَوْ أَزَلْنَا قِيمَتَهُ عَنْ مِلْكِهِمَا بِأَخْذِ الضَّمَانِ مِنْهُمَا لَا تَنْتَفِي الْمُمَاثَلَةُ، أَمَّا إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ دَيْنًا فَالشَّاهِدَانِ أَوْجَبَا عَلَيْهِ دَيْنًا بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَوْ اسْتَوْفَى الضَّمَانَ مِنْهُمَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمَشْهُودُ لَهُ مِنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ انْتَفَتْ الْمُمَاثَلَةُ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى مِنْهُمَا عَيْنٌ فِي مُقَابَلَةِ دَيْنٍ أَوْجَبَاهُ، وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ يُوَافِقُ فِي وَجْهِ الدَّيْنِ، يَقول فِي الْعَيْنِ: إنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ ثَبَتَ فِيهِ لِلْمُدَّعِي بِمُجَرَّدِ الْقَضَاءِ لَكِنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ يَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ مِلْكُهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الشَّاهِدَ شَيْئًا مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ يَدِهِ.
قَالَ الْبَزَّازِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي فَتَاوَاهُ: وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْفَتْوَى الضَّمَانُ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ قَبَضَ الْمُدَّعِي الْمَالَ أَوْ لَا، وَكَذَا الْعَقَارُ يُضْمَنُ بَعْدَ الرُّجُوعِ إنْ اتَّصَلَ الْقَضَاءُ بِالشَّهَادَةِ.
فُرُوعٌ:
شَهِدَا أَنَّهُ أَجَّلَهُ إلَى سَنَةٍ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَاهُ حَالًا ثُمَّ يَرْجِعَانِ عَلَى الْمَطْلُوبِ بَعْدَ السَّنَةِ، وَلَوْ تَوَى مَا عَلَى الْمَطْلُوبِ لَمْ يَرْجِعَا عَلَى الطَّالِبِ بِخِلَافِ الْحَوَالَةِ.
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَبْرَأَهُ أَوْ وَهَبَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا.
وَلَوْ شَهِدَا عَلَى هِبَةِ عَبْدٍ وَتَسْلِيمٍ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَتَهُ لِلْمَالِكِ وَلَا رُجُوعَ لِلْوَاهِبِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ وَلَا عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ كَالْعِوَضِ، وَإِنْ لَمْ يُضَمِّنْ الْوَاهِبُ الشَّاهِدَيْنِ لَهُ الرُّجُوعَ.
شَهِدَا أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ إلَى سَنَةٍ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ مِائَةٌ وَقَضَى بِهِ ثُمَّ رَجَعَا يَخْسَرُ الْبَائِعُ بَيْنَ رُجُوعِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي إلَى سَنَةٍ وَبَيْنَ تَضْمِينِ الشَّاهِدَيْنِ قِيمَتَهُ حَالَّةً وَلَا يُضَمِّنُهُمَا الْخَمْسمِائَةِ، فَإِنْ ضَمَّنَ الشَّاهِدَيْنِ رَجَعَا عَلَى الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ لِأَنَّهُمَا قَامَا مَقَامَ الْبَائِعِ بِالضَّمَانِ وَطَابَ لَهُمَا قَدْرُ مِائَةٍ وَتَصَدَّقَا بِالْفَضْلِ.
قولهُ: (وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي هَذَا بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ لَا رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ) وَهَذَا لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ الْمَالَ وَالرُّجُوعَ إنَّمَا يُوجِبُ الضَّمَانَ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ لَهُ، فَإِذَا بَقِيَ بَعْدَ رُجُوعِ مَنْ رَجَعَ مَنْ يَسْتَقِلُّ بِإِثْبَاتِ الْمَالِ بَقِيَ الْمَالُ ثَابِتًا فَلَمْ يَتَحَقَّقْ بِالرُّجُوعِ إتْلَافُ شَيْءٍ، وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَضْمَنَ مَعَ عَدَمِ إتْلَافِ شَيْءٍ.
وَأَمَّا مَا أَوْرَدَ مِنْ أَنَّهُ يَنْبَغِي إذَا رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ الِاثْنَيْنِ أَنْ لَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِ شَيْءٌ أَصْلًا فَيَقْتَضِي أَنْ يُضَمَّنَ الْوَاحِدُ الرَّاجِعُ كُلَّ الْمَالِ وَهُوَ مُصَادِمٌ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى نَفْيِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى نَفْيِهِ لِأَنَّ عَدَمَ ثُبُوتِ شَيْءٍ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ إنَّمَا هُوَ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَا يَلْزَمُ فِي حَلِّ الْبَقَاءِ مَا يَلْزَمُ فِي الِابْتِدَاءِ، وَحِينَئِذٍ فَبَعْدَمَا ثَبَتَ ابْتِدَاءُ شَيْءٍ بِشَهَادَةِ اثْنَيْنِ نُسِبَ إلَى كُلٍّ مِنْهُمَا فِي حَالِ الْبَقَاءِ ثُبُوتُ حِصَّةٍ مِنْهُ بِشَهَادَتِهِ فَتَبْقَى هَذِهِ الْحِصَّةُ مَا بَقِيَ عَلَى شَهَادَتِهِ وَيَكُونُ مُتْلِفًا لَهَا بِرُجُوعِهِ.
إذَا عُرِفَ هَذَا فَإِذَا رَجَعَ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ لَزِمَهُ ضَمَانُ النِّصْفِ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِرُجُوعِهِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ شَهِدَا بِالْمَالِ ثَلَاثَةً فَرَجَعَ أَحَدُهُمْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ بَقِيَ بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ، وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بَاقٍ بِالْحُجَّةِ، وَالْمُتْلِفُ مَتَى اسْتَحَقَّ (سَقَطَ الضَّمَانُ فَأَوْلَى أَنْ يَمْتَنِعَ) فَإِنْ رَجَعَ الْآخَرُ ضَمِنَ (الرَّاجِعَانِ نِصْفَ الْمَالِ) لِأَنَّ بِبَقَاءِ أَحَدِهِمْ يَبْقَى نِصْفُ الْحَقِّ.
الشَّرْحُ:
(وَإِنْ شَهِدَ بِالْمَالِ ثَلَاثَةٌ فَرَجَعَ أَحَدُهُمْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ بَقِيَ الْحَقُّ مِنْ غَيْرِ إتْلَافِ شَيْءٍ مِنْهُ بِبَقَاءِ الشَّاهِدَيْنِ وَالِاسْتِحْقَاقُ بَاقٍ بِالْحُجَّةِ (وَالْمُتْلَفُ مَتَى اُسْتُحِقَّ سَقَطَ الضَّمَانُ) كَمَا إذَا أَتْلَفَ مَالَ زَيْدٍ فَقُضِيَ بِضَمَانِهِ عَلَيْهِ فَظَهَرَ أَنَّ مُسْتَحِقَّهُ عَمْرٌو فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ وَيَسْقُطُ الضَّمَانُ لِزَيْدٍ (فَأَوْلَى أَنْ يُمْنَعَ الضَّمَانُ) وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذَا فَإِنَّ بِالرُّجُوعِ أَتْلَفَ عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ حِصَّتَهُ الَّتِي أَثْبَتَهَا لَهُ بِشَهَادَتِهِ لَهُ وَصَارَتْ مُسْتَحَقَّةً لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَبِبَقَاءِ مَنْ يَبْقَى كُلُّ الْحَقِّ بِهِ ظَهَرَ اسْتِحْقَاقُ الْمَشْهُودِ لَهُ لِتِلْكَ الْحِصَّةِ دُونَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَيَدْفَعُ الضَّمَانَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ (فَإِنْ رَجَعَ آخَرُ) مِنْ الثَّلَاثَةِ ضَمِنَ الرَّاجِعَانِ نِصْفَ الْمَالِ لِأَنَّ بِبَقَاءِ الثَّالِثِ يَبْقَى نِصْفُ الْمَالِ، فَلَوْ قَالَ الرَّاجِعُ الْأَوَّلُ كَيْفَ أَضْمَنُ بِرُجُوعِ الثَّانِي مَا لَا يَلْزَمُنِي ضَمَانُهُ بِرُجُوعِ نَفْسِي وَقْتَ رُجُوعِي لَا يُقْبَلُ هَذَا، كَمَا لَا يُقْبَلُ قول أَحَدِهِمَا لَوْ رَجَعَ الثَّلَاثَةُ لَا يَلْزَمُنِي شَيْءٌ لِأَنَّ غَيْرِي يَثْبُتُ بِهِ كُلُّ الْحَقِّ فَرُجُوعُ غَيْرِي مُوجِبٌ عَلَيْهِ لَا عَلَيَّ.
وَحَقِيقَةُ الْوَجْهِ أَنَّ تَلَفَ النِّصْفِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَسْتَقِلُّ بِهِ رُجُوعُ وَاحِدٍ إذَا فَرَضَ تَحَقُّقَهُ مَعَ رُجُوعِ جَمَاعَةٍ تَحَاصَصُوا الضَّمَانَ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِهِ مِنْ الْآخَرِ.

متن الهداية:
(وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَرَجَعَتْ امْرَأَةٌ ضَمِنَتْ رُبُعَ الْحَقِّ) لِبَقَاءِ ثَلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ بِبَقَاءِ مَنْ بَقِيَ (وَإِنْ رَجَعَتَا ضَمِنَتَا نِصْفَ الْحَقِّ) لِأَنَّ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ بَقِيَ نِصْفُ الْحَقِّ (وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَعَشْرَةُ نِسْوَةٍ ثُمَّ رَجَعَ ثَمَانٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِنَّ) لِأَنَّهُ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ (فَإِنْ رَجَعَتْ أُخْرَى كَانَ عَلَيْهِنَّ رُبْعُ الْحَقِّ) لِأَنَّهُ بَقِيَ النِّصْفُ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ وَالرُّبْعُ بِشَهَادَةِ الْبَاقِيَةِ فَبَقِيَ ثَلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ (وَإِنْ رَجَعَ الرَّجُلُ وَالنِّسَاءُ فَعَلَى الرَّجُلِ سُدُسُ الْحَقِّ وَعَلَى النِّسْوَةِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا عَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ وَعَلَى النِّسْوَةِ النِّصْفُ) لِأَنَّهُنَّ وَإِنْ كَثُرْنَ يَقُمْنَ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ إلَّا بِانْضِمَامِ رَجُلٍ وَاحِدٍ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ قَامَتَا مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي نُقْصَانِ عَقْلِهِنَّ «عُدِّلَتْ شَهَادَةُ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ» فَصَارَ كَمَا إذَا شَهِدَ بِذَلِكَ سِتَّةُ رِجَالٍ ثُمَّ رَجَعُوا (وَإِنْ رَجَعَ النِّسْوَةُ الْعَشَرَةُ دُونَ الرَّجُلِ كَانَ عَلَيْهِنَّ نِصْفُ الْحَقِّ عَلَى الْقوليْنِ) لِمَا قُلْنَا.
الشَّرْحُ:
(وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَرَجَعَتْ إحْدَاهُمَا ضَمِنَتْ رُبْعَ الْمَالِ لِبَقَاءِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ بِبَقَاءِ مَنْ بَقِيَ، وَإِنْ رَجَعَتَا ضَمِنَتَا نِصْفَهُ لِأَنَّ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ يَبْقَى نِصْفُ الْحَقِّ، وَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَعَشْرُ نِسْوَةٍ ثُمَّ رَجَعَ) مِنْهُنَّ (ثَمَانٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِنَّ لِأَنَّهُ بَقِيَ مَنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ كُلُّ الْحَقِّ، فَإِنْ رَجَعَتْ أُخْرَى ضَمِنَ) التِّسْعُ (رُبْعَ الْحَقِّ لِبَقَاءِ النِّصْفِ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ) الْبَاقِي (وَالرُّبْعِ بِشَهَادَةِ الْبَاقِيَةِ) (وَإِنْ رَجَعَ الرَّجُلُ وَالنِّسَاءُ) فَعَلَى الرَّجُلِ سُدُسُ الْحَقِّ وَعَلَى النِّسْوَةِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعِنْدَهُمَا عَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ وَعَلَى النِّسْوَةِ النِّصْفُ لِأَنَّهُنَّ وَإِنْ كَثُرْنَ يُقِمْنَ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ إلَّا بِانْضِمَامِ الرَّجُلِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ قَامَتَا مَقَامَ رَجُلٍ.
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نُقْصَانِ عَقْلِهِنَّ «عَدَلَتْ شَهَادَةُ كُلِّ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ شَهَادَةَ رَجُلٍ» رَوَى الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال: «يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الِاسْتِغْفَارَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا لَنَا أَكْثَرُ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، مَا رَأَيْت مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْكُنَّ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ؟ فَقَالَ: أَمَّا نُقْصَانُ الْعَقْلِ فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ فَهَذَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ، وَتَمْكُثُ اللَّيَالِيَ لَا تُصَلِّي وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ فَهَذَا نُقْصَانُ الدِّينِ» (فَصَارَ كَمَا لَوْ شَهِدَ بِذَلِكَ سِتَّةُ رِجَالٍ ثُمَّ رَجَعُوا، وَإِنْ رَجَعَ النِّسْوَةُ الْعَشْرُ دُونَ الرَّجُلِ كَانَ عَلَيْهِنَّ نِصْفُ الْحَقِّ عَلَى الْقوليْنِ) يَعْنِي بِالِاتِّفَاقِ عَلَى اخْتِلَافِ التَّخْرِيجِ.
فَعِنْدَهُمَا لِأَنَّ الثَّابِتَ بِشَهَادَتِهِنَّ نِصْفُ الْمَالِ وَعِنْدَهُ لِبَقَاءِ مَنْ يَثْبُتُ بِهِ النِّصْفُ وَهُوَ الرَّجُلُ، كَمَا لَوْ شَهِدَ سِتَّةُ رِجَالٍ ثُمَّ رَجَعَ خَمْسَةٌ ثُمَّ لَيْسَتْ إحْدَاهُنَّ أَوْلَى بِضَمَانِ النِّصْفِ مِنْ الْآخَرِينَ.

متن الهداية:
(وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ بِمَالٍ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا دُونَ الْمَرْأَةِ) لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ لَيْسَتْ بِشَاهِدَةٍ بَلْ هِيَ بَعْضُ الشَّاهِدِ فَلَا يُضَافُ إلَيْهِ الْحُكْمُ.
الشَّرْحُ:
(وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ بِمَالٍ ثُمَّ رَجَعُوا) فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا دُونَ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ لَيْسَتْ شَاهِدَةً بَلْ بَعْضٌ شَاهِدٌ لِأَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَشَهَادَةُ الْوَاحِدَةِ شَطْرُ عِلَّةٍ وَشَطْرُ الْعِلَّةِ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ فَكَانَ الْقَضَاءُ لَيْسَ إلَّا بِشَهَادَةِ الرَّجُلَيْنِ فَلَا تَضْمَنُ الْمَرْأَةُ عِنْدَ رُجُوعِهَا شَيْئًا.
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَثَلَاثُ نِسْوَةٍ ثُمَّ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ وَجَبَ ضَمَانُ نِصْفِ الْمَالِ لِبَقَاءِ مِنْ يَبْقَى بِشَهَادَتِهِ نِصْفَ الْمَالِ أَعْنِي الْمَرْأَتَيْنِ، ثُمَّ هُوَ عَلَى الرَّجُلِ خَاصَّةً عَلَى قولهِمَا لِثُبُوتِ النِّصْفِ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ وَالنِّصْفِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ.
وَيَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قول أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النِّصْفَ أَثْلَاثًا عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ هُنَا بِشَهَادَةِ الْكُلِّ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى الشُّيُوعِ.
ثُمَّ يُقَامُ كُلُّ امْرَأَتَيْنِ مَقَامَ رَجُلٍ، فَثَلَاثُ نِسْوَةٍ مَقَامُ رَجُلٍ وَنِصْفٍ، فَإِنْ رَجَعُوا جَمِيعًا فَعِنْدَهُمَا أَنْصَافًا.
وَعِنْدَهُ أَخْمَاسًا عَلَى النِّسْوَةِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسٍ وَعَلَى الرَّجُلِ خُمُسَانِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى امْرَأَةٍ بِالنِّكَاحِ بِمِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا ثُمَّ رَجَعَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا) لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ عِنْدَ الْإِتْلَافِ لِأَنَّ التَّضْمِينَ يَسْتَدْعِي الْمُمَاثَلَةَ عَلَى مَا عُرِفَ، وَإِنَّمَا تُضْمَنُ وَتُتَقَوَّمُ بِالتَّمَلُّكِ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مُتَقَوِّمَةً ضَرُورَةَ الْمِلْكِ إبَانَةً لِخَطَرِ الْمَحَلِّ (وَكَذَا إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً بِمِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا) لِأَنَّهُ إتْلَافٌ بِعِوَضٍ لَمَّا أَنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ حَالَ الدُّخُولِ فِي الْمِلْكِ وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ كَلَا إتْلَافٍ، وَهَذَا لِأَنَّ مَبْنَى الضَّمَانِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْإِتْلَافِ بِعِوَضٍ وَبَيْنَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ (وَإِنْ شَهِدَا بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الزِّيَادَةَ) لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ شَهِدَا إلَى آخِرِهِ) إذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا بِقَدْرِ مَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ ادَّعَاهُ بِأَقَلَّ بِأَنْ ادَّعَاهُ بِمِائَةٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفٌ فَشَهِدَ بِذَلِكَ شَاهِدَانِ فَقُضِيَ بِمُقْتَضَى شَهَادَتِهِمَا ثُمَّ رَجَعَا لَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ بِرُجُوعِهِمَا وَلَا يَضْمَنَانِ شَيْئًا فِي الصُّورَتَيْنِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
وَذَكَرَ فِي الْمَنْظُومَةِ فِي صُورَةِ النُّقْصَانِ أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ مَا نَقَصَ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ.
قَالَ فِي بَابِ أَبِي يُوسُفَ: لَوْ أَثْبَتُوا نِكَاحَهَا فَأَوْكَسُوا إنْ رَجَعُوا لَمْ يَضْمَنُوا مَا بَخَسُوا.
ثُمَّ بَيَّنَهُ فِي شَرْحِهِ الْمُسَمَّى بِالْحَصْرِ وَجُعِلَ الْخِلَافُ مَبْنِيًّا عَلَى مَسْأَلَةِ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي قَدْرِ الْمَهْرِ.
فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ الْقول قولهَا إلَى مَهْرِ مِثْلِهَا فَكَانَ يَقْضِي لَهَا بِأَلْفٍ لَوْلَا هَذِهِ الشَّهَادَةُ فَقَدْ أَتْلَفَا عَلَيْهَا تِسْعَمِائَةٍ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الْقول لِلزَّوْجِ فَلَمْ يَتْلَفَا عَلَى قولهِ عَلَيْهَا شَيْئًا وَتَبِعَهُ صَاحِبُ الْمَجْمَعِ.
وَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ صَاحِبُ النِّهَايَةِ.
وَغَيْرُهُ مِنْ الشَّارِحِينَ لَمْ يَنْقُلُوا سِوَاهُ خِلَافًا وَلَا رِوَايَةً، وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي الْأُصُولِ كَالْمَبْسُوطِ وَشَرْحِ الطَّحَاوِيِّ وَالذَّخِيرَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّمَا نَقَلُوا فِيهَا خِلَافَ الشَّافِعِيِّ، فَلَوْ كَانَ لَهُمْ شُعُورٌ بِهَذَا الْخِلَافِ الثَّابِتِ فِي الْمَذْهَبِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَعْرِضُوا عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَيَشْتَغِلُوا بِنَقْلِ خِلَافِ الشَّافِعِيِّ.
وَذَكَرُوا وَجْهَهُ بِأَنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ لِثُبُوتِ تَقَوُّمِهِ حَالَ الدُّخُولِ، فَكَذَا فِي غَيْرِهِ لِأَنَّهُ فِي حَالِ الْخُرُوجِ عَيَّنَ ذَلِكَ الَّذِي ثَبَتَ تَقَوُّمُهُ.
وَأَجَابُوا بِحَاصِلِ تَوْجِيهِ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ تَقَوُّمَهُ حَالَ الدُّخُولِ لَيْسَ إلَّا لِإِظْهَارِ خَطَرِهِ حَيْثُ كَانَ مِنْهُ النَّسْلُ الْمَطْلُوبُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ النَّفْعِ، كَمَا شُرِطَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْعَقْدِ عَلَيْهِ دُونَ سَائِرِ الْعُقُودِ لِذَلِكَ لَا لِاعْتِبَارِهِ مُتَقَوِّمًا فِي نَفْسِهِ كَالْأَعْيَانِ الْمَالِيَّةِ لِأَنَّهُ لَا يُرَدُّ الْمِلْكُ عَلَى رَقَبَتِهِ وَالْمَنَافِعُ لَا تَتَقَوَّمُ فَلَا تُضْمَنُ لِأَنَّ التَّضْمِينَ يَسْتَدْعِي الْمُمَاثَلَةَ بِالنَّصِّ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْأَعْيَانِ الَّتِي تُحَرَّزُ وَتَتَمَوَّلُ وَالْأَعْرَاضِ الَّتِي تَتَصَرَّمُ وَلَا تَبْقَى.
وَفُرِّعَ فِي النِّهَايَةِ عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ خِلَافِيَّةٌ أُخْرَى، هِيَ مَا إذَا شَهِدُوا بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْفُرْقَةِ لَمْ يَضْمَنُوا عِنْدَنَا، وَكَذَا إذَا قَتَلَ رَجُلٌ امْرَأَةَ رَجُلٍ لَا يَضْمَنُ الْقَاتِلُ لِزَوْجِهَا شَيْئًا، وَكَذَا إذَا ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ لَا شَيْءَ عَلَيْهَا لِزَوْجِهَا.
وَعِنْدَهُ عَلَيْهَا وَعَلَى الْقَاتِلِ لِلزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْلِ.
وَأَوْرَدَ عَلَى قولنَا نَقْضًا أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا الضَّمَانَ بِإِتْلَافِ مَنَافِعِ الْبُضْعِ حَقِيقَةً فِيمَا إذَا أَكْرَهَ مَجْنُونٌ امْرَأَةً فَزَنَى بِهَا يَجِبُ فِي مَالِهِ مَهْرُ الْمِثْلِ فَكَذَا يَجِبُ فِي الْإِتْلَافِ الْحُكْمِيِّ.
وَأَجَابَ نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ بِأَنَّهُ فِي الْإِتْلَافِ الْحَقِيقِيِّ بِالشَّرْعِ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ، وَالْحُكْمِيُّ دُونَهُ فَلَا يَكُونُ الْوَارِدُ فِيهِ وَارِدًا فِي الْحُكْمِيِّ، وَنَظِيرُهُ مَا فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ: لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ اسْتَأْجَرَ الدَّارَ مِنْ هَذَا شَهْرًا بِعَشْرَةٍ وَأُجْرَةُ مِثْلِهَا مِائَةٌ وَالْمُؤَجِّرُ يُنْكِرُ فَشَهِدَا بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا الْمَنْفَعَةَ وَمُتْلِفُ الْمَنْفَعَةَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.
قولهُ: (وَكَذَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا إذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً بِمَهْرِ مِثْلِهَا) بِأَنْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَشَهِدَا ثُمَّ رَجَعَا لَا يُفْسَخُ النِّكَاحُ عَلَى كُلِّ حَالٍ بَعْدَمَا قَضَى بِهِ، وَلَا يَضْمَنَانِ مَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُمَا عَوَّضَا مِلْكَ الْبُضْعِ وَهُوَ مُتَقَوِّمٌ حِينَ وُرُودِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ، وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ كَلَا إتْلَافٍ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّ مَبْنَى الضَّمَانِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْإِتْلَافِ بِعِوَضٍ وَهُوَ الثَّابِتُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ، وَالْإِتْلَافُ بِلَا عِوَضٍ وَهُوَ الَّذِي يُحْكَمُ بِهِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ (وَإِنْ شَهِدَا بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الزِّيَادَةَ) عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ (لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهَا بِلَا عِوَضٍ) وَهِيَ مِنْ الْأَعْيَانِ الَّتِي تَقَعُ الْمُمَاثَلَةُ بِالتَّضْمِينِ فِيهَ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِنْ شَهِدَا بِبَيْعِ شَيْءٍ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ أَكْثَرَ ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِتْلَافٍ مَعْنًى نَظَرًا إلَى الْعِوَضِ (وَإِنْ كَانَ بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ ضَمِنَا النُّقْصَانَ) لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا هَذَا الْجُزْءَ بِلَا عِوَضٍ.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ بَاتًّا أَوْ فِيهِ خِيَارُ الْبَائِعِ، لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْبَيْعُ السَّابِقُ فَيُضَافُ الْحُكْمُ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ إلَيْهِ فَيُضَافُ التَّلَفُ إلَيْهِمْ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ شَهِدَا بِبَيْعِ شَيْءٍ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ أَكْثَرَ) بِأَنْ ادَّعَى ذَلِكَ مُدَّعٍ فَشَهِدَا لَهُ بِهِ.
(ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِتْلَافِ مَعْنًى نَظَرًا إلَى الْعِوَضِ، وَإِنْ) شَهِدَا بِهِ (بِأَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ) ثُمَّ رَجَعَا (ضَمِنَا نُقْصَانَ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا هَذَا الْقَدْرَ) عَلَيْهِ (بِلَا عِوَضٍ) هَذَا إذَا شَهِدَا بِالْبَيْعِ وَلَمْ يَشْهَدَا بِنَقْدِ الثَّمَنِ، فَلَوْ شَهِدَا بِهِ وَبِنَقْدِ الثَّمَنِ ثُمَّ رَجَعَا، فَإِمَّا أَنْ يُنَظِّمَاهَا فِي شَهَادَةٍ وَاحِدَةٍ بِأَنْ شَهِدَا أَنَّهُ بَاعَهُ هَذَا بِأَلْفٍ وَأَوْفَاهُ الثَّمَنَ أَوْ فِي شَهَادَتَيْنِ بِأَنْ شَهِدَا بِالْبَيْعِ فَقَطْ ثُمَّ شَهِدَا بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَوْفَاهُ الثَّمَنَ، فَفِي الْأَوَّلِ يُقْضَى عَلَيْهِمَا بِقِيمَةِ الْبَيْعِ لَا بِالثَّمَنِ، وَفِي الثَّانِي يُقْضَى عَلَيْهِمَا بِالثَّمَنِ لِلْبَائِعِ.
وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ فِي الْأَوَّلِ الْمَقْضِيَّ بِهِ الْبَيْعُ دُونَ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِإِيجَابِ الثَّمَنِ لِاقْتِرَانِهِ بِمَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ وَهُوَ الْقَضَاءُ بِالْإِيفَاءِ، وَلِهَذَا قُلْنَا: لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَ مِنْ هَذَا عَبْدَهُ وَأَقَالَهُ بِشَهَادَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُقْضَى بِالْبَيْعِ لِأَنَّهُ قَارَنَ الْقَضَاءَ بِهِ مَا يُوجِبُ انْفِسَاخَهُ وَهُوَ الْقَضَاءُ بِالْإِقَالَةِ، فَكَذَا هَذَا، وَإِذَا كَانَ الْمَقْضِيُّ بِهِ الْبَيْعَ فَقَطْ وَزَالَ الْمَبِيعُ بِلَا عِوَضٍ فَيَضْمَنَانِ الْقِيمَةَ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِشَهَادَتَيْنِ فَإِنَّ الثَّمَنَ يَصِيرُ مَقْضِيًّا بِهِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالثَّمَنِ لَا يُقَارِنُهُ مَا يُسْقِطُهُ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَشْهَدَا بِالْإِيفَاءِ بَلْ شَهِدَا بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِذَا صَارَ الثَّمَنُ مَقْضِيًّا بِهِ ضَمِنَاهُ بِرُجُوعِهِمَا.
ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْبَيْعِ بَاتَا أَوْ فِيهِ خِيَارُ الْبَائِعِ لِأَنَّ السَّبَبَ) يَعْنِي الْبَيْعَ (هُوَ السَّابِقُ) حَتَّى اسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِزَوَائِدِهِ وَقَدْ أَزَالَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ إلَيْهِ (فَانْضَافَ التَّلَفُ إلَى الشُّهُودِ) وَهَذَا جَوَابٌ عَنْ سُؤَالٍ ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ.
حَاصِلُهُ: يَنْبَغِي أَنْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا إنَّمَا أَثْبَتَا الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ، وَبِهِ لَا يَزُولُ مِلْكَهُ عَنْ الْمَبِيعِ وَإِنَّمَا يَزُولُ إذَا لَمْ يُفْسَخْ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ، وَإِذَا لَمْ يُفْسَخْ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ كَانَ مُخْتَارًا فِي إزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ سَبَبَ التَّلَفِ الْعَقْدُ السَّابِقُ وَثُبُوتُهُ بِشَهَادَتِهِمْ فَيُضَافُ إلَيْهِمْ.
غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ سَكَتَ إلَى أَنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ رِضَاهُ لِجَوَازِ كَوْنِهِ لِتَحَرُّزِهِ عَنْ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ الْكَذِبُ لِأَنَّهُ قَدْ أَنْكَرَ الْعَقْدَ، فَإِذَا فَسَخَ كَانَ مُعْتَرِفًا بِصُدُورِهِ مِنْهُ فَيَظْهَرُ لِلنَّاسِ تَنَاقُضُهُ وَكَذِبُهُ، وَالْعَاقِلُ يَحْتَرِزُ عَنْ مِثْلِهِ، وَكَذَا لَوْ شَهِدَا بِالْعَقْدِ عَلَى أَنَّ فِيهِ خِيَارُ الْمُشْتَرِي وَمَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يُفْسَخْ وَفِي قِيمَةِ الْمَبِيعِ نُقْصَانٌ عَنْ الثَّمَنِ الَّذِي شَهِدَا بِهِ ضَمِنَاهُ، وَلَوْ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِالشِّرَاءِ أَجَازَهُ فِي الْمُدَّةِ سَقَطَ الضَّمَانُ عَنْهُمَا لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالَهُ بِاخْتِيَارِهِ، كَمَا لَوْ أَجَازَهُ الْبَائِعُ فِي شَهَادَتِهِمَا بِالْخِيَارِ لَهُ بِثَمَنٍ نَاقِصٍ عَنْ الْقِيمَةِ حَيْثُ يَسْقُطُ أَيْضًا.

متن الهداية:
(وَإِنْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا نِصْفَ الْمَهْرِ) لِأَنَّهُمَا أَكَّدَا ضَمَانًا عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ طَاوَعَتْ ابْنَ الزَّوْجِ أَوْ ارْتَدَّتْ سَقَطَ الْمَهْرُ أَصْلًا وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي مَعْنَى الْفَسْخِ فَيُوجِبُ سُقُوطَ جَمِيعِ الْمَهْرِ كَمَا مَرَّ فِي النِّكَاحِ ثُمَّ يَجِبُ نِصْفُ الْمَهْرِ ابْتِدَاءً بِطَرِيقِ الْمُتْعَةِ فَكَانَ وَاجِبًا بِشَهَادَتِهِمَا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَضَى بِالْفُرْقَةِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا نِصْفَ الْمَهْرِ) هَذَا إذَا كَانَ فِي الْعَقْدِ مَهْرٌ مُسَمًّى، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَمِنَا الْمُتْعَةَ لِأَنَّهَا الْوَاجِبَةُ فِيهِ، وَذَلِكَ (لِأَنَّهُمَا أَكَّدَا مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ) وَعَلَى الْمُؤَكِّدِ مَا عَلَى الْمُوجِبِ.
أَمَّا كَوْنُهُ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ فَإِنَّ الْمَهْرَ بِحَيْثُ لَوْ ارْتَدَّتْ الزَّوْجَةُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْ طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا يَسْقُطُ الْمَهْرُ أَصْلًا.
وَأَمَّا أَنَّ عَلَى الْمُؤَكِّدِ مَا عَلَى الْمُوجِبِ فَبِمَسْأَلَتَيْنِ: هُمَا مَا إذَا أَخَذَ مُحْرِمٌ صَيْدَ الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ فِي يَدِهِ آخَرُ يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْآخَرِ وَرَجَعَ بِهِ عَلَى الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ أَكَّدَ مَا كَانَ بِحَيْثُ يَسْقُطُ بِأَنْ يَتُوبَ فَيُطْلِقُهُ، وَمَا إذَا أَكْرَهَ رَجُلٌ آخَرُ عَلَى الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ نِصْفُ الْمَهْرِ وَرَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَكَذَلِكَ بِارْتِدَادِهَا وَنَحْوِهِ (وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي مَعْنَى الْفَسْخِ فَتُوجِبُ سُقُوطُ كُلِّ الْمَهْرِ كَمَا مَرَّ فِي النِّكَاحِ) أَيْ مِنْ بَابِ الْمَهْرِ مِنْ أَنَّ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ يَعُودُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ إلَيْهَا كَمَا كَانَ سَالِمًا فَلَا يَجِبُ بِمُقَابَلَتِهِ شَيْءٌ (ثُمَّ يَجِبُ نِصْفُ الْمَهْرِ ابْتِدَاءً) فَقَدْ أَوْجَبَا بِشَهَادَتِهِمَا عَلَيْهِ مَالًا فَيَجِبُ ضَمَانُهُ عَلَيْهِمَا، وَإِنَّمَا قَالَ فِي مَعْنَى الْفَسْخِ وَلَمْ يَقُلْ فَسْخٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ حَقِيقَةَ الْفَسْخِ وَإِلَّا لَمْ يَنْقُصْ مِنْ عَدَدِ الطَّلَاقِ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ بِسَبَبِ عَوْدِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَيْهَا سَالِمًا، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ مَا لَوْ شَهِدَا بِالطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ مَعَ أَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي الْقُدُورِيِّ وَالْبِدَايَةِ.
وَحُكْمُهُ أَنْ لَا يَجِبَ ضَمَانٌ لِأَنَّ الْبُضْعَ لَا تُقَوَّمُ لَهُ حَالَ الْخُرُوجِ، وَمَا دَفَعَ مِنْ الْمَهْرِ قَدْ اعْتَاضَ عَنْهُ مَنَافِعَ الْبُضْعِ فَلَمْ يَتْلَفَا عَلَيْهِ مَالًا بِلَا عِوَضٍ.
وَفِي التُّحْفَةِ: لَمْ يَضْمَنَا إلَّا مَا زَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّ بِقَدْرِ مَهْرِ الْمِثْلِ إتْلَافٌ بِعِوَضٍ وَهُوَ مَنَافِعُ الْبُضْعُ الَّتِي اسْتَوْفَاهَا.
ثُمَّ الْمَعْرُوفُ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ لَا يَضْمَنَانِ سِوَى نِصْفِ الْمَهْرِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ.
وَخَرَجَ بَعْضُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ قول أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
أَمَّا عَلَى قول مُحَمَّدٍ فَيَضْمَنَانِ لِلْمَرْأَةِ مَا زَادَ عَلَى نِصْفِ الْمَهْرِ إلَى تَمَامِهِ لِأَنَّهُمَا بِرُجُوعِهِمَا زَعَمَا أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يُطَلِّقْهَا وَإِنَّمَا وَقَعَ بِالْقَضَاءِ بِهِ.
فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وُقُوعُهُ بِالْقَضَاءِ كَإِيقَاعِ الزَّوْجِ وَبِإِيقَاعِ الزَّوْجِ لَيْسَ لَهَا إلَّا النِّصْفُ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَضَاءُ بِهِ لَيْسَ إيقَاعًا مِنْهُ فَيَبْقَى حَقُّهَا ثَابِتًا فِي كُلِّ الْمَهْرِ وَفَوَّتَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا فَقَدْ أَتْلَفَاهُ انْتَهَى.
وَالْوَجْهُ عَدَمُهُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْوُقُوعِ إنَّمَا هُوَ عَنْهُ تَكْذِيبًا لَهُ فِي إنْكَارِهِ الطَّلَاقَ.
عَلَى أَنَّ نَقْلَ هَذَا الْخِلَافِ غَرِيبٌ لَيْسَ فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ فَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَتَهُ) لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا مَالِيَّةَ الْعَبْدِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَحَوَّلُ إلَيْهِمَا بِهَذَا الضَّمَانِ فَلَا يَتَحَوَّلُ الْوَلَاءُ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ) فَقَضَى بِالْعِتْقِ (ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَتَهُ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ) مَالًا مُتَقَوِّمًا (بِلَا عِوَضٍ) فَيَضْمَنَانِ سَوَاءً كَانَا مُوسِرَيْنِ أَوْ مُعَسِّرَيْنِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ إتْلَافٍ وَهُوَ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْيَسَارِ (وَالْوَلَاءُ لِلْمَوْلَى لِأَنَّ الْعِتْقَ مِنْ جِهَتِهِ) وَهُوَ وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِلْعِتْقِ صَارَ مُكَذِّبًا شَرْعًا، وَإِنَّمَا لَا يَتَحَوَّلُ لِلشَّاهِدَيْنِ بِضَمَانِهِمَا لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَقْبَلُ الِانْتِقَالُ وَلَا يَكُونُ الْوَلَاءُ عِوَضًا نَافِيًا لِلضَّمَانِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ بَلْ هُوَ كَالنَّسَبِ سَبَبٌ يُورَثُ بِهِ.
وَلَوْ كَانَا شَهِدَا بِتَدْبِيرِ الْعَبْدِ وَقَضَى بِهِ كَانَ عَلَيْهِمَا ضَمَانُ مَا بَيْنَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا وَغَيْرَ مُدَبَّرٍ وَقَدْ سَلَفَ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ قَدْرُ نُقْصَانِ التَّدْبِيرِ.
وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ رُجُوعِهِمَا فَعَتَقَ مِنْ ثُلُثِ تَرِكَتِهِ كَانَ عَلَيْهِمَا بَقِيَّةُ قِيمَتِهِ عَبْدًا لِوَرَثَتِهِ، وَلَوْ شَهِدَا بِالْكِتَابَةِ ضَمِنَا تَمَامَ قِيمَتِهِ.
وَالْفَرْقُ أَنَّهُمَا بِالْكِتَابَةِ حَالَا بَيْنَ الْمَوْلَى وَمَالِيَّةِ الْعَبْدِ بِشَهَادَتِهِمَا فَكَانَا غَاصِبَيْنِ فَيَضْمَنَانِ قِيمَتَهُ بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَحُولُ بَيْنَ الْمَوْلَى وَبَيْنَ مُدَبَّرِهِ بَلْ يَنْقُصُ مَالِيَّتُهُ، ثُمَّ إذَا ضَمِنَا تَبِعَا الْمُكَاتَبَ عَلَى نُجُومِهِ لِأَنَّهُمَا قَامَا مَقَامَ الْمَوْلَى حِين ضَمِنَا قِيمَتَهُ، وَلَا يُعْتَقُ الْمُكَاتَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَيْهِمَا الْجَمِيعَ كَمَا كَانَ كَذَلِكَ مَعَ الْمَوْلَى، وَوَلَاؤُهُ لِلَّذِي شَهِدَا عَلَيْهِ بِالْكِتَابَةِ، وَإِنْ عَجَزَ فَرُدَّ فِي الرِّقِّ كَانَ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ لَمْ تَصِرْ مَمْلُوكَةً لِلشَّاهِدَيْنِ بِالضَّمَانِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ وَيَرُدُّ الْمَوْلَى مَا أَخَذَ مِنْهُمَا لِزَوَالِ حَيْلُولَتِهِمَا بِرَدِّهِ فِي الرِّقِّ، فَهُوَ كَغَاصِبِ الْمُدَبَّرِ إذَا ضَمِنَ قِيمَتَهُ بَعْدَ إبَاقِهِ ثُمَّ رَجَعَ يَكُونُ مَرْدُودًا عَلَى الْمَوْلَى وَيَرُدُّ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ.
وَلَوْ كَانَا شَهِدَا عَلَى إقْرَارِهِ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَمَةَ وُلِدَتْ مِنْهُ فَقَضَى بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا لِلْمَوْلَى نُقْصَانَ قِيمَتِهَا وَذَلِكَ بِأَنْ تُقَوَّمَ أَمَةً وَأُمَّ وَلَدٍ لَوْ جَازَ بَيْعُهَا مَعَ الْأُمُومَةِ فَيَضْمَنَانِ مَا بَيْنَ ذَلِكَ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ فَعَتَقَتْ كَانَ عَلَيْهِمَا بَقِيَّةُ قِيمَتِهَا أَمَةً لِلْوَرَثَةِ وَإِنَّ هُمَا نَصَّا فِي شَهَادَتِهِمَا عَلَى إقْرَارِهِ فِي ابْنٍ فِي يَدِهِ أَنَّهُ مِنْهُ بِأَنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهَا وَلَدَتْ مِنْهُ هَذَا الْوَلَدَ كَانَ عَلَيْهِمَا مَعَ مَا ذَكَرْنَا لِلْمَوْلَى قِيمَةُ الْوَلَدِ، فَإِنْ قَبَضَهُمَا ثُمَّ مَاتَ فَوَرِثَهُ هَذَا الِابْنُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ مِمَّا وَرِثَ مِثْلُ مَا كَانَ الْمَيِّتُ أَخَذَهُ مِنْهُمَا مِنْ قِيمَتِهِ وَقِيمَةِ أُمِّهِ لِأَنَّهُ يَقول الْمَيِّتُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَأَنَّهُ دَيْنٌ فِي تَرِكَتِهِ لَهُمَا.
وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَا لِلْوَرَثَةِ مِقْدَارَ مَا وَرِثَ الِابْنُ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا، عَلَيْهِمْ بِشَهَادَتِهِمَا.

متن الهداية:
(وَإِنْ شَهِدُوا بِقِصَاصٍ ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ الْقَتْلِ ضَمِنُوا الدِّيَةَ وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُمْ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يُقْتَصُّ مِنْهُمْ لِوُجُودِ الْقَتْلِ مِنْهُمْ تَسْبِيبًا فَأَشْبَهَ الْمُكْرِهَ بَلْ أَوْلَى، لِأَنَّ الْوَلِيَّ يُعَانُ وَالْمُكْرِهَ يُمْنَعُ.
وَلَنَا أَنَّ الْقَتْلَ مُبَاشَرَةَ لَمْ يُوجَدْ، وَكَذَا تَسْبِيبًا لِأَنَّ التَّسْبِيبَ مَا يُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا، وَهَاهُنَا لَا يُفْضِي لِأَنَّ الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ، بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ لِأَنَّهُ يُؤْثِرُ حَيَاتَهُ ظَاهِرًا، وَلِأَنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ مِمَّا يَقْطَعُ النِّسْبَةَ، ثُمَّ لَا أَقَلَّ مِنْ الشُّبْهَةِ وَهِيَ دَارِئَةٌ لِلْقِصَاصِ بِخِلَافِ الْمَالِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَالْبَاقِي يُعْرَفُ فِي الْمُخْتَلِفِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا شَهِدَا بِقِصَاصٍ ثُمَّ رَجَعَا بَعْدَ الْقَتْلِ ضَمِنَا الدِّيَةَ وَلَا يُقْتَصُّ مِنْهُمَا) وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ خِلَافًا لِأَشْهَبَ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الشُّهُودِ.
وَمَذْهَبُ أَحْمَدَ إنْ قَالَا أَخْطَأْنَا ضَمِنَّا الدِّيَةَ فِي مَالِهِمَا، وَإِنْ قَالَا تَعَمَّدْنَا اقْتَصَّ مِنْهُمَا (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: يَقْتَصُّ لِوُجُودِ الْقَتْلِ) مِنْهُمَا (تَسْبِيبًا فَأَشْبَهَ) الشَّاهِدَ (الْمُكْرَهَ) فَإِنَّهُ تَسَبَّبَ بِشَهَادَتِهِ فِي قَتْلِ الْوَلِيِّ، كَمَا أَنَّ الْمُكْرَهَ تَسَبَّبَ بِإِكْرَاهِهِ فِي قَتْلِ الْمُكْرَهِ فَيُقْتَلُ كَمَا يُقْتَلُ الْمُكْرَهُ (بَلْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ لِأَنَّ وَلِيَّ الْقِصَاصِ) بَعْدَ الشَّهَادَةِ (يُعَانُ) عَلَى قَتْلِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ أَحَدٌ (وَالْمُكْرَهُ) لَا يُعَانُ عَلَى الْقَتْلِ بِإِكْرَاهِهِ بَلْ (يُمْنَعُ) وَيُنْكَرُ عَلَيْهِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ (وَلَنَا أَنَّ الْقَتْلَ) مِنْ الشَّاهِدِ (لَمْ يُوجَدْ) تَسْبِيبًا لِأَنَّ التَّسْبِيبَ مَا يُفْضِي إلَيْهِ، أَيْ إلَى مَا تَسَبَّبَ فِيهِ (غَالِبًا) وَالشَّهَادَةُ لَا تُفْضِي إلَى قَتْلِ الْوَلِيِّ عَلَى وَجْهِ الْغَلَبَةِ، وَإِنْ أَفَضْت إلَى الْقَضَاءِ، بَلْ كَثِيرًا مَا يَقَعُ ثُمَّ تَقِفُ النَّاسُ فِي الصُّلْحِ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ بَلْ عَلَى قَدْرِ بَعْضِهَا فَلَمْ تُفِضْ غَالِبًا إلَيْهِ بَلْ قَدْ وَقَدْ، فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ طَلَبُ التَّشَفِّي، وَمِنْهُمْ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الْعَفْوُ بِالْمَالِ يَرَى أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ مَا هُوَ الْأَحَبُّ لِلشَّارِعِ وَحُصُولُ مَالٍ يَنْتَفِعُ بِهِ فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ دُنْيَا وَأُخْرَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا بِالنَّظَرِ إلَى مُجَرَّدِ ذَاتِهِ وَمَفْهُومِهِ يَقْتَضِي كَثْرَةَ وُجُودِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقَتْلِ فَكَيْفَ إذَا عَلِمَ كَثْرَةَ وُقُوعِهِ، وَإِذَا انْتَفَى التَّسْبِيبُ مِنْ الشَّاهِدِ حَقِيقَةً انْتَفَى قَتْلُهُ (بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ) يَعْنِي فَحَالَفَ الْوَلِيُّ الْمُكْرَهَ (لِأَنَّ) الْغَالِبَ أَنَّ (الْإِنْسَانَ يُؤْثِرُ حَيَاتَهُ) عَلَى حَيَاةِ غَيْرِهِ فَكَانَ الْمُكْرَهُ بِإِكْرَاهِهِ مُسَبَّبًا حَقِيقَةً حَيْثُ ثَبَتَ بِفِعْلِهِ مَا هُوَ الْمُفْضِي لِلْقَتْلِ بِسَبَبِ الْإِيثَارِ الطَّبِيعِيِّ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُ الشَّاهِدِ عَلَيْهِ لِانْتِفَاءِ الْجَامِعِ وَهُوَ إثْبَاتُ مَا يُفْضِي غَالِبًا إلَى الْفِعْلِ.
وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ (أَنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ) ذِي الِاخْتِيَارِ الصَّحِيحِ أَعْنِي قَتْلَ الْوَلِيِّ الْمُعْتَرِضِ بَعْدَ الشَّهَادَةِ (مِمَّا يَقْطَعُ نِسْبَةُ الْفِعْلِ) إلَى الشَّاهِدِ كَمَا عُرِفَ فِيمَنْ فَكَّ إنْسَانٌ قَيْدَهُ فَأَبَقَ بِاخْتِيَارِهِ وَأَمْثَالِهِ، كَمَنْ دَفَعَ إنْسَانًا فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا غَيْرُهُ تَعَدِّيًا فَإِنَّهُ بِدَفْعِهِ الِاخْتِيَارِيِّ انْقَطَعَتْ نِسْبَةُ التَّلَفِ إلَى الْحَافِرِ فَلَا وُجُودَ لِلْمُسَبِّبِ مَعَ الْمُبَاشِرِ مُخْتَارًا بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ اعْتَرَضَ فِعْلَهُ الِاخْتِيَارِيِّ عَنْ الْإِكْرَاهِ لَكِنَّ اخْتِيَارَهُ اخْتِيَارٌ فَاسِدٌ لِلْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ فَكَانَ كَلَا اخْتِيَارٍ، وَلِذَا لَا يَصِحُّ مَعَ اخْتِيَارِهِ هَذَا الْبَيْعُ وَلَا إجَازَةُ بَيْعِهِ وَلَا إجَارَتُهُ وَنَحْوُهَا فَلَمْ يَصْلُحْ لِقَطْعِ نِسْبَةِ الْفِعْلِ عَنْ الْمُكْرَهِ فَاعْتُبِرَ الْمُكْرَهُ كَآلَةٍ لِلْمُكْرَهِ قَتَلَ بِهَا ذَلِكَ الْقَتِيلَ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْطَعْ الِاخْتِيَارَ الصَّحِيحَ النِّسْبَةَ إلَى الشَّاهِدِ فَلَا أَقَلُّ مِنْ أَنْ يُوجِبَ شُبْهَةً فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ وَالْقِصَاصُ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ (بِخِلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ) وَقولهُ فَأَشْبَهَ الْمُكْرِهِ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَقولهُ وَالْمُكْرَهُ يُمْنَعُ بِفَتْحِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْمُخْتَلِفِ مُخْتَلِفُ الرِّوَايَةِ لِلْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ.
وَفِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِلْعَتَّابِيِّ: إذَا شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانًا خَطَأً أَوْ عَمْدًا فَقَضَى بِذَلِكَ وَأَخَذَ الْوَلِيُّ الدِّيَةَ فِي الْخَطَإِ وَقُتِلَ الْقَاتِلُ فِي الْعَمْدِ ثُمَّ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا، فَالْعَاقِلَةُ فِي الْخَطَإِ إنْ شَاءُوا رَجَعُوا عَلَى الْآخِذِ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا يَرْجِعُ هُوَ عَلَى أَحَدٍ، وَإِنْ شَاءُوا ضَمِنُوا الشُّهُودَ لِأَنَّهُمْ تُسَبَّبُوا لِلتَّلَفِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَهُمْ يَرْجِعُونَ عَلَى الْوَلِيِّ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا الْمَضْمُونَ وَهُوَ الدِّيَةُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَلِيَّ أَخَذَ مَالَهُمْ.
وَفِي الْعَمْدِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْوَلِيِّ وَلَا عَلَى الشُّهُودِ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ أَوْرَثَ شُبْهَةً لَكِنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ وَيُخَيَّرُ وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ بَيْنَ أَنْ يَضْمَنُوا الْوَلِيَّ الدِّيَةَ وَلَا يَرْجِعُ هُوَ عَلَى أَحَدٍ، وَبَيْنَ أَنْ يَضْمَنُوا الشَّاهِدَيْنِ، وَهُمَا لَا يَرْجِعَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوا الْمَضْمُونَ وَهُوَ الدَّمُ لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّمْلِيكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَالًا، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُونَ بِمَا ضَمِنُوا لِأَنَّ أَدَاءَ الضَّمَانِ انْعَقَدَ سَبَبًا لِمِلْكِ الْمَضْمُونِ لَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ فِي الْمَضْمُونِ لِعَدَمِ قَبُولٍ فَيَثْبُتُ فِي بَدَلِهِ كَمَنْ غَصَبَ مُدَبَّرًا وَغَصَبَهُ آخَرُ وَمَاتَ فِي يَدِهِ وَضَمِنَ الْمَالِكُ الْأَوَّلُ يَرْجِعُ عَلَى الثَّانِي بِمَا ضَمِنَ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَذَا.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْفَرْعِ ضَمِنُوا) لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ صَدَرَتْ مِنْهُمْ فَكَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِمْ (وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الْأَصْلِ وَقَالُوا لَمْ نُشْهِدْ شُهُودَ الْفَرْعِ عَلَى شَهَادَتِنَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ) لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا السَّبَبَ وَهُوَ الْإِشْهَادُ فَلَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ فَصَارَ كَرُجُوعِ الشَّاهِدِ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَضَاءِ (وَإِنْ قَالُوا أَشْهَدْنَاهُمْ وَغَلِطْنَا ضَمِنُوا وَهَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِمَا يُعَايِنُ مِنْ الْحُجَّةِ وَهِيَ شَهَادَتُهُمْ.
وَلَهُ أَنَّ الْفُرُوعَ نَقَلُوا شَهَادَةَ الْأُصُولِ فَصَارَ كَأَنَّهُمْ حَضَرُوا.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا رَجَعَ شُهُودُ الْفَرْعِ ضَمِنُوا) وَهَذَا بِالِاتِّفَاقِ (لِأَنَّ الشَّهَادَةَ) الَّتِي (فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ) وَهِيَ الَّتِي بِهَا الْقَضَاءُ (صَدَرَتْ مِنْهُمْ فَكَانَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَيْهِمْ. وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الْأَصْلِ وَقَالُوا لَمْ نُشْهِدْ شُهُودَ الْفَرْعِ عَلَى شَهَادَتِنَا لَمْ يَضْمَنُوا) وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ خِلَافًا.
وَفِي شَرْحِ الْقُدُورِيِّ لِأَبِي نَصْرِ الْبَغْدَادِيِّ قَالَ: هَذَا قول أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَضْمَنُونَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ انْتَهَى.
وَذَكَرَ أَبُو الْمُعِينِ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ فِيمَا إذَا شَهِدَ فَرْعَانِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ خَطَأً فَقَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَقَبَضَهَا الْوَلِيُّ ثُمَّ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا لَا يَضْمَنُ الْفُرُوعَ لِعَدَمِ رُجُوعِهِمْ وَعَدَمِ ظُهُورِ كَذِبِهِمْ بِيَقِينٍ لِجَوَازِ أَنَّ الْأَصْلَيْنِ أَشْهَدَاهُمَا غَيْرَ أَنَّ الْوَلِيَّ يَرُدُّ عَلَى الْعَاقِلَةِ مَا أَخَذَ مِنْهَا، وَلَوْ حَضَرَ الْأَصْلَانِ وَقَالَا لَمْ نُشْهِدْهُمَا لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى إنْكَارِهِمَا وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَصْلَيْنِ.
أَمَّا عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُمَا لَوْ رَجَعَا بِأَنْ قَالَا أَشْهَدْنَاهُمَا بِبَاطِلٍ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَإِشْهَادَهُمَا لِلْفَرْعَيْنِ كَانَا فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ كَالرُّجُوعِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، فَإِذَا لَمْ يَضْمَنَا بِالرُّجُوعِ فَكَذَا إذَا ظَهَرَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا.
فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَيَضْمَنَانِ بِالرُّجُوعِ.
ثُمَّ قَالَ هُنَا: لَا يَضْمَنَانِ: يَعْنِي قَالَ مُحَمَّدٌ فِي إنْكَارِ الْأُصُولِ الْإِشْهَادَ لَا يَضْمَنُ الْأَصْلَانِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَرَدُّدًا فِي أَنَّهُ قَالَهُ عَلَى قول أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ خَاصَّةً أَوْ قَالَهُ اتِّفَاقًا.
وَأَمَّا صَاحِبُ النِّهَايَةِ فَصَرَّحَ بِأَنَّ عَدَمَ الضَّمَانِ بِالْإِجْمَاعِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي وَجْهِهِ (لِأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا) أَيْ شُهُودُ الْأَصْلِ (السَّبَبَ وَهُوَ الْإِشْهَادُ، وَذَلِكَ لَا يُبْطِلُ الْقَضَاءَ لِأَنَّهُ خَبَرٌ يَحْتَمِلُ) الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ (فَصَارَ كَرُجُوعِ الشَّاهِدِ) يَعْنِي بَعْدَ الْقَضَاءِ لَا يَنْقُضُ بِهِ الشَّهَادَةَ لِهَذَا (بِخِلَافِ مَا) إذَا أَنْكَرُوا الْإِشْهَادَ (قَبْلَ الْقَضَاءِ) لَا يَقْضِي بِشَهَادَةِ الْفَرْعَيْنِ كَمَا إذَا رَجَعُوا قَبْلَهُ، هَذَا إذَا قَالُوا لَمْ نُشْهِدْهُمْ (فَإِنْ قَالُوا أَشْهَدْنَاهُمْ وَغَلِطْنَا) أَوْ أَشْهَدْنَاهُمْ وَرَجَعْنَا (ضَمِنَ الْأُصُولَ) هَكَذَا أَطْلَقَ الْقُدُورِيُّ وَحَكَمَ الْمُصَنِّفُ بِأَنَّ الضَّمَانَ قول مُحَمَّدٍ.
أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأُصُولِ.
لِمُحَمَّدٍ أَنَّ الْفَرْعَيْنِ نَقَلَا شَهَادَتَهُمَا إلَى الْمَجْلِسِ وَوَقَعَ الْقَضَاءُ بِهَا كَأَنَّهُمَا حَضَرَا بِأَنْفُسِهِمَا وَأَدَّيَا فَإِذَا رَجَعَا ضَمِنَا.
وَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنْ تَكُونَ شَهَادَتُهُمَا لَيْسَتْ فِي الْمَجْلِسِ حَقِيقَةً لَكِنَّهَا فِيهِ حُكْمًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا الْمَنْقولةُ فَعَمِلْنَا بِالْحَقِيقَةِ عِنْدَ عَدَمِ الرُّجُوعِ وَبِالْحُكْمِ عِنْدَ الرُّجُوعِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ الْفَرْعَيْنِ نَائِبَيْنِ عَنْ الْأَصْلَيْنِ فَيَكُونُ فِعْلُهُمَا كَفِعْلِهِمَا لِيَرْتَفِعَ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَعَمِلَ مَنْعُ الْأَصْلَيْنِ إيَّاهُمَا عَنْ الْأَدَاءِ بَعْدَ التَّحْمِيلِ وَلَا يُعْمَلُ، فَلَهُمَا بَلْ عَلَيْهِمَا أَنْ يُؤَدِّيَا لَوْ مَنَعَاهُمَا بَعْدَ التَّحْمِيلِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِحَقٍّ آخَرَ إنَّمَا يَقْضِي بِهِ بِشَهَادَتِهِمْ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يَقْضِي بِمَا عَايَنَ مِنْ الْحُجَّةِ وَهُوَ شَهَادَتُهُمَا.
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَضَاءَ لَيْسَ إلَّا بِشَهَادَتِهِمَا لَمْ يَضْمَنْ غَيْرَهُمَا، وَقَدْ أَخَّرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَ مُحَمَّدٍ وَعَادَتُهُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَجَّحُ عِنْدَهُ مَا أَخَّرَهُ.

متن الهداية:
(وَلَوْ رَجَعَ الْأُصُولُ وَالْفُرُوعُ جَمِيعًا يَجِبُ الضَّمَانُ عِنْدَهُمَا عَلَى الْفُرُوعِ لَا غَيْرُ) لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَتِهِمْ: وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ ضَمِنَ الْأُصُولَ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْفُرُوعَ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَا وَبِشَهَادَةِ الْأُصُولِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا، وَالْجِهَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي التَّضْمِينِ (وَإِنْ قَالَ شُهُودُ الْفَرْعِ كَذَبَ شُهُودُ الْأَصْلِ أَوْ غَلِطُوا فِي شَهَادَتِهِمْ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى ذَلِكَ) لِأَنَّ مَا أُمْضِيَ مِنْ الْقَضَاءِ لَا يُنْتَقَضُ بِقولهِمْ، وَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ مَا رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ إنَّمَا شَهِدُوا عَلَى غَيْرِهِمْ بِالرُّجُوعِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَلَوْ رَجَعَ الْأُصُولَ وَالْفُرُوعَ جَمِيعًا يَجِبُ الضَّمَانُ عِنْدَهُمَا عَلَى الْفُرُوعِ) بِنَاءً عَلَى مَا عُرِفَ لَهُمَا مِنْ (أَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ) وَالضَّمَانُ إنَّمَا يَكُونُ بِرُجُوعِ مَنْ قَضَى بِشَهَادَتِهِ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ ضَمِنَ الْأُصُولَ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْفُرُوعَ لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَقَعَ بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَا) وَهُوَ قولهُمَا إنَّ الْقَضَاءَ بِمَا عَايَنَ الْقَاضِي مِنْ الْحُجَّةِ، وَإِنَّمَا عَايَنَ شَهَادَةَ الْفُرُوعِ (وَمِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرَ) أَيْ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ أَنَّ الْفُرُوعَ نَقَلُوا شَهَادَةَ الْأُصُولِ، فَالْقَضَاءُ بِالشَّهَادَةِ الْمَنْقولةِ وَهِيَ شَهَادَةُ الْأُصُولِ.
وَقولهُ (وَالْجِهَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ لِمَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْجِهَتَيْنِ فَيَضْمَنُ كُلًّا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ نِصْفَ الْمُتْلَفِ؟ فَقَالَ هُمَا مُتَغَايِرَتَانِ لِأَنَّ شُهُودَ الْأَصْلِ يَشْهَدُونَ عَلَى أَصْلِ الْحَقِّ وَشُهُودَ الْفَرْعِ يَشْهَدُونَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ.
وَقِيلَ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا إشْهَادٌ وَالْأُخْرَى أَدَاءٌ لِلشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ، وَلَا مُجَانَسَةَ بَيْنَ الشَّهَادَتَيْنِ فَلَا تُعْتَبَرُ شَهَادَةُ الْفَرِيقَيْنِ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةٍ وَاحِدَةٍ بِأَمْرِ وَاحِدٍ، فَلِهَذَا لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي التَّضْمِينِ بَلْ أَثْبَتَ لَهُ الْخِيَارَ فِي تَضْمِينِ أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ شَاءَ، وَلَا يَرْجِعُ وَاحِدٌ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ إذَا ضَمِنَ بِمَا أَدَّى عَلَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ، فَإِنَّهُ إذَا ضَمِنَ الْغَاصِبُ يَرْجِعُ عَلَى غَاصِبِهِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ مُؤَاخَذٌ بِفِعْلِهِ، فَإِذَا ضَمِنَهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْآخَرِ بِسَبَبِ أَنَّ الْمُتْلِفَ نَقَلَ شَهَادَةَ الْأُصُولِ، إذْ لَوْلَا إشْهَادُ الْأُصُولِ مَا تَمَكَّنَ الْفُرُوعُ مِنْ النَّقْلِ، وَلَوْلَا نَقْلُ الْفُرُوعِ لَمْ يَثْبُتْ النَّقْلُ فَكَانَ فِعْلُ كُلٍّ مِنْ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ سَبَبَ الضَّمَانِ.
أَمَّا الْفُرُوعُ فَبِالنَّقْلِ.
وَأَمَّا الْأُصُولُ فَبِتَحْمِيلِهِمْ الْفُرُوعَ عَلَى النَّقْلِ، إذْ بِتَحْمِيلِهِمْ لَزِمَهُمْ ذَلِكَ شَرْعًا حَتَّى يَأْثَمُوا لَوْ تَرَكُوا النَّقْلَ بِخِلَافِ الْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِهِ.

متن الهداية:
قَالَ: (وَإِنْ رَجَعَ الْمُزَكَّوْنَ عَنْ التَّزْكِيَةِ ضَمِنُوا) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَقَالَا: لَا يَضْمَنُونَ لِأَنَّهُمْ أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا فَصَارُوا كَشُهُودِ الْإِحْصَانِ.
وَلَهُ أَنَّ التَّزْكِيَةَ إعْمَالٌ لِلشَّهَادَةِ، إذْ الْقَاضِي لَا يَعْمَلُ بِهَا إلَّا بِالتَّزْكِيَةِ فَصَارَتْ بِمَعْنَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ، بِخِلَافِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مَحْضٌ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِنْ رَجَعَ الْمُزَكَّوْنَ عَنْ التَّزْكِيَةِ) بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْمَالِ (ضَمِنُوا) الْمَالَ أَطْلَقَهُ الْقُدُورِيُّ.
وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ أَنَّ ذَلِكَ قول أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُونَ لِأَنَّ الْقَضَاءَ الَّذِي بِهِ الْإِتْلَافُ لَمْ يَقَعْ بِالتَّزْكِيَةِ بَلْ بِالشَّهَادَةِ فَلَمْ يُضِفْ التَّلَفَ إلَيْهِمْ فَلَا يَضْمَنُونَ (وَصَارُوا كَشُهُودِ الْإِحْصَانِ) إذَا رَجَعُوا بَعْدَ الرَّجْمِ لَا يَضْمَنُونَ الدِّيَةَ بِاتِّفَاقِنَا.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ التَّزْكِيَةَ عِلَّةُ إعْمَالِ الشَّهَادَةِ وَالشَّهَادَةَ عِلَّةُ التَّلَفِ فَصَارَ التَّلَفُ مُضَافًا إلَى التَّزْكِيَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ كَمَا يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ بِخِلَافِ الْإِحْصَانِ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْعِلَّةُ فِي الْقَتْلِ بَلْ الْعِلَّةُ فِيهِ الزِّنَا، وَالْإِحْصَانُ لَيْسَ مُثْبِتًا لِلزِّنَا فَشُهُودُهُ لَا يَثْبُتُونَ الزِّنَا، فَلَيْسَ عِلَّةً لِعِلَّةِ الْقَتْلِ لِيَجِبَ الضَّمَانُ بَلْ هُوَ شَرْطٌ مَحْضٌ: أَيْ عِنْدَ وُجُودِهِ فَيَكُونُ الْحَدُّ كَذَا، وَتَمَامُ الْمُؤَثِّرِ فِي الْحَدِّ رَجْمًا كَانَ أَوْ جَلْدًا لَيْسَ إلَّا الزِّنَا، إلَّا أَنَّهُ قَدْ يُقَالُ مِنْ طَرَفِهِمَا إنَّ الْحُكْمَ لَا يُضَافُ إلَى عِلَّةِ الْعِلَّةِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ الْعِلَّةِ وَعِنْدَ وُجُودِهَا لَا يُضَافُ إلَّا إلَيْهَا.
وَهَذَا فَرْعٌ ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ: شَهِدُوا بِالزِّنَا وَزَكَّوْا وَقَالَ الْمُزَكَّوْنَ هُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ فَرَجَمَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ أَوْ كُفَّارٌ، فَإِنْ ثَبَتَ الْمُزَكَّوْنَ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى الشُّهُودِ، أَمَّا الشُّهُودُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ كَذِبُهُمْ فِي الشَّهَادَةِ، بَلْ الْوَاقِعُ أَنْ لَا شَهَادَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ عَبِيدٍ أَوْ كُفَّارٍ.
وَأَمَّا الْمُزَكَّوْنَ فَلِأَنَّهُمْ اعْتَمَدُوا قول النَّاسِ فِي ذَلِكَ، وَلَيْسَ إخْبَارُهُمْ الْقَاضِيَ بِذَلِكَ شَهَادَةً، وَأَمَّا لَوْ رَجَعُوا وَقَالُوا تَعَمَّدْنَا الْكَذِبَ فَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ الدِّيَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَعِنْدَهُمَا الدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ الْمُزَكَّيْنَ مَا أَثْبَتُوا سَبَبَ الْإِتْلَافِ وَهُوَ الزِّنَا، إنَّمَا أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا.
وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقول: جَعَلُوا مَا لَيْسَ بِمُوجَبٍ: أَعْنِي الشَّهَادَةَ مُوجَبًا بِالتَّزْكِيَةِ إلَى آخِرِهِ: يَعْنِي مَا ذَكَرْنَا.

متن الهداية:
(وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْيَمِينِ وَشَاهِدَانِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الْيَمِينِ خَاصَّةً) لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَبُ، وَالتَّلَفُ يُضَافُ إلَى مُثْبِتِي السَّبَبِ دُونَ الشَّرْطِ الْمَحْضِ: أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِشَهَادَةِ الْيَمِينِ دُونَ شُهُودِ الشَّرْطِ، وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ وَحْدَهُمْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ.
وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ يَمِينُ الْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ.
الشَّرْحُ:
قولهُ: (وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْيَمِينِ) أَيْ شَهِدُوا بِتَعْلِيقِ طَلَاقِ زَوْجَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا بِدُخُولِ الدَّارِ أَوْ بِتَعْلِيقِ عِتْقِ عَبْدِهِ بِهِ ثُمَّ شَهِدَ آخَرَانِ بِدُخُولِ الدَّارِ فَقَضَى بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ثُمَّ رَجَعَ الْفَرِيقَانِ (فَالضَّمَانُ) لِنِصْفِ الْمَهْرِ وَقِيمَةِ الْعَبْدِ (عَلَى شُهُودِ الْيَمِينِ خَاصَّةً) وَاحْتُرِزَ بِلَفْظِ خَاصَّةً عَنْ قول زُفَرَ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ بِالسَّوِيَّةِ.
قَالَ: لِأَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِشَهَادَتِهِمْ.
قُلْنَا: الْقَضَاءُ بِالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ إنَّمَا هُوَ بِثُبُوتِ قولهِ أَنْتَ طَالِقٌ وَأَنْتَ حُرٌّ فَإِنَّهُ الْعِلَّةُ فِي الْوُقُوعِ وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ الْمُصَنِّفُ السَّبَبَ، وَذَلِكَ إنَّمَا أَثْبَتَهُ شُهُودُ الْيَمِينِ، بِخِلَافِ شُهُودِ الدُّخُولِ لِأَنَّ الدُّخُولَ لَمْ يُوضَعْ شَرْعًا عِلَّةً لِطَلَاقٍ وَلَا عَتَاقٍ فَلَمْ يَكُنْ عِلَّةً، وَإِذَا ضَمِنَ الدَّافِعُ مَعَ وُجُودِ الْحَافِرِ وَهُمَا مُسَبِّبَانِ غَيْرَ أَنَّ الدَّفْعَ مُثْبَتٌ لِسَبَبٍ أَقْرَبَ مِنْ الْحَفْرِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ إنَّمَا هِيَ الثِّقَلُ فَلَأَنْ يَضْمَنَ مُبَاشِرُ الْعِلَّةَ دُونَ مُبَاشِرِ السَّبَبِ أَوْلَى.
وَمِنْ هَذَا إذَا رَجَعَ شُهُودُ التَّخْيِيرِ مَعَ شُهُودِ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا يَضْمَنُ شُهُودُ الِاخْتِيَارِ خَاصَّةً لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ هُوَ الْعِلَّةُ وَالتَّخْيِيرَ سَبَبٌ، وَلَا يَلْزَمُ عَلَى هَذَا إذَا شَهِدَا أَنَّهُ تَزَوَّجَ فُلَانَةَ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ دَخَلَ بِهَا وَقَضَى بِكُلِّ الْمَهْرِ ثُمَّ رَجَعُوا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الدُّخُولِ وَإِنْ كَانَ وُجُوبُ الْمَهْرِ بِالتَّزَوُّجِ لِأَنَّ شُهُودَ الدُّخُولِ أَثْبَتُوا أَنَّ الزَّوْجَ اسْتَوْفَى عِوَضَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالتَّزَوُّجِ فَخَرَجَتْ شَهَادَتُهُمَا مِنْ أَنْ تَكُونَ إتْلَافًا، ثُمَّ مُقْتَضَى مَا فِي وَجْهِ انْفِرَادِ شُهُودِ الْيَمِينِ بِالضَّمَانِ أَنْ يَجِبَ عَلَى شُهُودِ الشَّرْطِ لَوْ رَجَعُوا وَحْدَهُمْ بِتَسَبُّبِهِمْ بِإِثْبَاتِهِمْ مَا يَثْبُتُ السَّبَبُ عِنْدَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَجَعَ مَعَهُمْ شُهُودُ الْيَمِينِ، وَحَكَى الْمُصَنِّفُ فِيهِ اخْتِلَافَ الْمَشَايِخِ.
قَالَ الْعَتَّابِيُّ قَالَ أَكْثَرُ الْمَشَايِخِ: يَضْمَنُونَ لِأَنَّهُمْ تَسَبَّبُوا فِي التَّلَفِ بِغَيْرِ حَقٍّ، لِأَنَّ لَهُ أَثَرٌ فِي وُجُودِ الْعِلَّةِ عِنْدَهُ فَيَكُونُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ عِنْدَ عَدَمِ الْعِلَّةِ، بِخِلَافِ الْإِحْصَانِ لِأَنَّهُ أَثَّرَ فِي مَنْعِ وُجُودِ الْعِلَّةِ لِأَنَّ الدُّخُولَ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ سَبَّبَ الِامْتِنَاعَ مِنْ الزِّنَا لَا سَبَّبَ إتْيَانَهُ فَلَا يَلْحَقُ بِالْعِلَّةِ.
وَجَعَلَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ هَذَا عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لِمَعْنَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ كَلَامِ الْعَتَّابِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا غَلَطٌ، بَلْ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ شُهُودَ الشَّرْطِ لَا يَضْمَنُونَ بِحَالٍ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الزِّيَادَاتِ، لِأَنَّ قولهُ أَنْتَ حُرٌّ مُبَاشِرُ الْإِتْلَافِ، وَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يُضَافُ إلَيْهِ لَا إلَى الشَّرْطِ سَوَاءً كَانَ تَعَدِّيًا أَوَّلًا.
بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْحَفْرِ فَالْعِلَّةُ هُنَاكَ ثِقَلُ الْمَاشِي، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْإِتْلَافِ فِي شَيْءٍ فَلِهَذَا يُجْعَلُ الْإِتْلَافُ مُضَافًا لِلشَّرْطِ وَهُوَ إزَالَةُ الْمَسْكَةِ.
ثُمَّ لَا يَخْفَى عَلَيْك أَنَّ صُورَةَ رُجُوعِ شُهُودِ الشَّرْطِ وَحْدِهِمْ إذَا أَقَرَّ بِالتَّعْلِيَةِ فَشَهِدَا بِوُجُودِ الشَّرْطِ.
وَأَمَّا لَوْ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَيْهِ بِالتَّعْلِيقِ وَآخَرَانِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ ثُمَّ رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ وَحْدَهُمْ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ فِي عَدَمِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.